مجدي حسين: "قصة طالوت وجالوت.. تكرر عبر التاريخ"
منذ يوم
عدد القراءات: 3942
تنشر "الشعب" تباعاً كتاب "رسائل الإيمان" الذي حرره مجدي أحمد حسين، رئيس حزب الاستقلال ورئيس تحرير جريدة الشعب الجديد، عندما سُجن بتهمة زيارة غزة ومناصرة الإخوة الفلسطينيين، حيث جاء الحكم العسكرى بحبسه لمدة عامين في 11 فبراير 2009 وإلى الحلقة الثانية عشر من الكتاب .
(12)
قصة طالوت وجالوت.. تكرر عبر التاريخ
قصة طالوت وجالوت التى وردت فى سورة البقرة تتكرر عبر التاريخ، كقانون اجتماعى، وكسنة من سنن الله فى خلقه، والقصص القرآنى هو مستودع القوانين الاجتماعية والسياسية كافة التى تحكم حياة البشر، لذلك قال القرآن عن القصص أن فيه (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ), فما هى المفاصل الأساسية فى هذه القصة:
- أعرب بنو إسرائيل عن رغبتهم فى القتال فى سبيل الله.
- فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم.
- عندما بعث الله لهم طالوت ليقود القتال أثاروا مماحكات حول أحقية القيادة (نزعة البشر للصراع حول القيادة والتنافس فيها والغيرة).
- عندما بدأ القتال قام طالوت باختبار من معه فى الصلابة والطاعة لله، فأمرهم ألا يشربوا من نهر إلا من اغترف غرفة بيده، وأن الذى سيلتزم بذلك هو الذى سيواصل معه، فلم يلتزم إلا قليل!
- وبعد مجاوزة النهر هو والذين آمنوا معه قالت الأغلبية من هذه القلة: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)!!
- وقالت القلة الباقية من القلة: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
- انتصرت هذه القلة الباقية!
وينطبق هذا القانون على الصراع العسكرى والسلمى، فكلما زادت المخاطر والتحديات، تعرضت الفئة المؤمنة الصلبة للمزيد من التقلص والانكماش، ولكنها فى المقابل تزداد صلابة وإيمانا ويقينا بالله، فإذا صبرت يكون النصر حليفها بإذن الله.
وقد تعرض حزب العمل لشىء من هذا منذ اعتداء السلطة عليه فى عام 2000، فقبل هذا الاعتداء كان الحزب يمارس نشاطه بصورة قانونية طبيعية, وكان الناس يقبلون على الانخراط فى عضويته بعشرات الألوف، وكانت الجموع تسعى للكتابة فى جريدة "الشعب"، أو للترشيح فى قوائم الحزب فى الانتخابات المختلفة. وعندما أصبح الحزب مجمدا بقرار من الطغاة وتم إيقاف جريدة "الشعب"، ابتعد كثير من الأعضاء عنه، وهربت مجموعات إسلامية من صفوفه باعتباره لم يعد ملاذا آمنا، بل أصبحت عقوبة الإسلامى الذى ينضم إلى حزب العمل مغلظة.
ولكن فى المقابل انضمت إلى حركة الحزب عناصر أكثر عقائدية وصلابة، وهكذا فإن الحزب كغيره من الفرق المجاهدة يتعرض للاختبار, فإن كان على حق سيستمر ويقوى وينتصر، وإن كان زائفا وخبيثا يتبخر بسبب هذه الابتلاءات والمحن. والأصل اللغوى للفتنة، من فتن الذهب, أى صهره حتى يتخلص من الشوائب. ولذلك فإن أصحاب الحق إذا تعرضوا للفتنة أى للصهر والانصهار فإن معدنهم الأصيل يتخلص من الشوائب، ويصبحون أكثر قوة وأصالة وصلابة وقيمة. لذلك فإن الابتلاء يتحول من نقمة إلى نعمة، وهذا قانون ثابت: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ولكن كيف يواجه المؤمنون هذا الموقف الرهيب إذ لا توازن ماديا فى القوى مع الباطل، واحتمالات المخاطر عالية تتراوح بين الموت والعذاب وشظف العيش؟
تستند المواجهة إلى ركنين أساسين وردا أيضا فى ذات القصة:
- الإيمان بالآخرة: فالذين ثبتوا إلى النهاية مع طالوت وصفهم القرآن الكريم بأنهم: (يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ)، فاليقين بالآخرة، وأنها المستقر والمستودع النهائى والخالد لبنى البشر، هو أساس الاستهانة بمخاطر الدنيا العرضية، وهذا اليقين يعطى المؤمن قوة مضاعفة غير منظورة, أى معنوية، وهذا اليقين يثبته على الحق حتى آخر قطرة من دمه، والطغاة لا يستطيعون قياس هذه القوة الكامنة فى معسكر المؤمنين، وتخرج عن حساباتهم، وهذه من أهم عناصر غفلتهم.
- الصبر: (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) و (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) والمفهوم الشائع عن الصبر أنه موقف سلبى يشير إلى الاستكانة والخنوع والرضا بالظلم, وهذا مفهوم خاطئ، فالصبر موقف إيجابى يعنى تحمل المصاعب والمتاعب والمخاطر بثبات. وهذه الآية تؤكد ذلك, فالصبر مطلوب خلال القتال، وليس بالهروب منه، بل جاء الحديث أكثر تعبيرا، طلبا لفيض من الصبر أى أكثر من الصبر المعتاد: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) لأن الموقف جد صعب والتوازن المادى لصالح العدو. وهكذا فإن الإيمان بالآخرة لا يكفى إذا لم يكن مشفوعا بالصبر، فقد يؤمن إنسان بالآخرة، ولكن عند شدة النزال لا يصبر على المكاره، والمتاعب، والعطش، والجروح والإصابات, فيفر من ساحة الوغى!
والجهاد السلمى لا تقل مخاطره عن الجهاد الحربى، كما أنه يتسم بالبطء, وهذا يستدعى المزيد من الصبر. وبطبيعة الحال فإن الصبر يفيض على المؤمن كلما كان يقينه بالآخرة أشد وأقوى. واليقين يعنى أن تكون الآخرة فى بؤرة شعوره وتفكيره، فكل المسلمين لا ينكرون الآخرة، ولكن القضية تكمن فى حضور هذا الإيمان فى الذهن والقلب طوال الوقت, لضبط السلوك والحركة فى الدنيا على أساسها.
نحن على الحق بإذن الله، لأن خصومنا ومعارضينا والذين سقطوا من مسيرة الجهاد، لا يقولون إننا نقول شيئا خاطئا، ولكن يقولون "لنكن واقعيين".. "ليس هذا وقته".. "لا طاقة لنا اليوم بجالوت" إن صاحب الحق يعرفه، والناس كلها تعرف الحق (كما قال المسيح تعرفون الحق والحق يحرركم) ولكنها تخشى من دفع التكاليف، ودفع الثمن. والقرآن الكريم لم يضع أبدا الكثرة كمعيار للصواب، بل العكس هو صحيح، كان الحق دائما مع القلة، حتى تنتصر.
روابط الحلقات السابقة :-