عندنا سلطة إرهابية تزعم أنها تحارب الإرهاب ، لذلك أقول لهم صادقًا: "تريدون وقْف الإرهاب ..؟! توقّفوا أنتم عن الإرهاب..!" وللأمانة الفكرية هذا عنوان اقتبسته من الفصل الخامس لكتاب عجيب من تأليف الكاتب الأمريكي الشهير"مايكل مور" عن "جورج دبليو بوش" .. ومنظومته السياسية ، وتم نشره بعنوان : Dude, Where's My Country? فى أوج الغزو الأمريكي للعراق..!
يكتب مور عادة بأسوبه المشهور الذى يمزج فيه السخرية اللاذعة إلى درجة الجنون .. بالحقائق الموجعة إلى حد الإيلام .. والعنوان نفسه لا يخلو من السخرية المريرة ؛ فهو يعبر عن دهشته وهو يبحث عن بلاده التى جلب لها بوش العار والدمار فلا يجدها إلا أشلاءً تحت أنقاض الحماقة والطغيان .. وهو فى كلتا الحالين لا تفارق الإبتسامة الساخرة شفتيه .. وكأنه لم يفعل شيئا يستوجب الخجل أو الإعتذار.. إنه أشبه مايكون بالطفل البرئ الذى يتصرف بالفطرة بلا إفتعال ولا مداراة ولا نفاق..
والذين قرأوا لمايكل مور أو شاهدوا أفلامه الوثائقية الرائعة يعرفون أنه رجل متعدد المواهب: فهو مؤلف كتب مشهورة من أكثر الكتب مبيعًا وهو كاتب مقال متميز .. كما أنه مؤلف ومخرج للأفلام الوثائقية.. التى بلغت من الشهرة والإبداع الفنى ما استحقت عليه جوائز عالمية .. كان آخرها جائزة الأُوسكار .. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يقصر مور إبداعه الفنى على هذا النوع من الأفلام فهو رجل صاحب رسالة سياسية واضحة .. ورغم الثروة التى هبطت عليه فجأة إلا أنه يتمتع بدرجة كبيرة من الزهد .. وليس أدلّ على ذلك من أنه لايقرب الخمر ، فى مجتمع يضع تعاطى الخمور والخبرة بأصنافها والتمييز بين مذاقاتها وإجادة الحديث عنها فى أعلى سلّم القيم الإجتماعية ..
وقد رأى أن الفلم الوثائقى هو الذى يعبّر عن رسالته أفضل تعبير وأنقاه .. فنأى بنفسه تماما عن أفلام الروايات التى تعتمد على الإثارة الحسّية وقصص الجنس والعنف التى تضيع فيها الرسالة المزعومة تحت أكوام المتع الرخيصة والتفاهات. ولاينسى مور أبدًا فى كل أنشطته الفنية والفكرية والإجتماعية رسالته السياسية لإيقاظ الناس وتفتيح أعينهم على مخاطر السياسات الخارجية التى تنتهجها الإدارة الأمريكية .. وعلى تورّطها فى حروب لاضرورة لها ولا هدف إلا خدمة المصالح الاستغلالية لحفنة جشعة من أصحاب الشركات ورجال المال ولأعمال يسعون لانتهاب ثروات الشعوب ..
لم ينْس مور رسالته حتى فى تلك اللحظة الحاسمة وهو يتسلم جائزة الأوسكار؛ ٍسألته زوجته قبل أن يصعد إلى المنصّة : هل أعددت شيئًا تقوله فى هذه المناسبة ...؟ فكان جوابه : وهل كنت أحلم بهذه الجائزة حتى أُعدّ لها كلاما يقال..!! كان مور حتى تلك اللحظة خالي الذهن من أى كلام يمكن قوله فى هذه المناسبة سوى أن يقول ( شكرا لكم ..!) ثم ينزل سعيدًا ..
ولكن يحكى لنا "مور" أنه قد جرى بينه وبين نفسه أثناء إتجاهه نحو المنصّة حوارا خاطفا شقّ مشاعره إلى نصفين متصارعين .. يقول: شعرت كأن على كتفى الأيمن ملاكا يقول لى : "قل لهم كلاما طيّبًا .. واشكرهم على إختيارهم لك فهذا واجبك فى هذا الموقف.." ، وكان على كتفى الأيسر شيطان يحرّضنى ويمسك بتلابيب عقلى ويهمس فى أذنى محذّرا : "لقد جاءتك الفرصة يا مايكل من أوسع أبوابها وسيسمعك العالم كله وأنت على الهواء فقل لهم ما يعتلج فى صدرك ولا تُبالى" ..! يقول مور: حتى هذه اللحظة لم يكن فى ذهنى شيئّا محدّدًا سوى فكرة غامضة ..
فقط عندما أصبحت أمام الميكروفون شعرت بأن الكلمات تتدفق على لسانى ووجدتنى أقول: "لقد أصبحت الأفلام الحقائقية بالغة الأهمية .. وذلك لأننا نعيش في زمن تنتج فيه الانتخابات الخرافية رئيسًا خرافيّا.. إننا نعيش في زمن يحكمنا فيه رجل يرسلنا إلى جبهة الحرب لأسباب أسطورية" .. وهنا ضجّت القاعة بالضحك .. فقد كانت الإشارة واضحة الدلالة .. وإذا بمور يفجّر قنبلته الشهيرة التى عبرت القاعة لتصل إلى أسماع العالم بأسره .. صاح مور قائلاً: "إننا ضد هذه الحرب العبثية المشتعلة في العراق .. عار عليك يا مستر بوش .. عار عليك ألف مرة ..!"
ليس هناك إلا رجل واحد هو الذى يستطيع أن يقول هذا الكلام بهذه الجرأة فى مثل هذا المكان وفى مثل هذه المناسبة .. ولا بد أن يكون أيضا مجنونا .. إنه إذن مايكل مور ..! ولذلك لم يحظ بأى عناية من جانب إعلامنا العربي لأنه يمثل عنده الثورة على الأبقار المقدسة وعلى الأوضاع المستقرة وعلى المشروعات السلطوية التى كرّس لها الإعلام العربي نفسه ودعى الناس لعبادتها من دون الله...
عندما طرح مايكل مور السؤال الذى ظهر فى مستهلّ هذا المقال كعنوان فصل من فصول كتابه العجيب أتبعه بالإجابة العفوية الطبيعية .. فقلت لنفسى لقد وضع الرجل السؤال وأجاب عليه فى نفس اللحظة إجابة منطقية مقنعه فماذا بقى له أن يقول بعد ذلك ..؟؟
إنه ينتقل فجأة إلى أسلوبه الساخر وكأنه قد تخلى عن الكلام المنطقى الجاد وبدأ فى الهزل .. ولكنك تذهل أنه برغم السخرية الحادة مايزال الرجل يجرّد الواقع من كل ماعلق به من زيف وتحريف ويضرب بأصابعه الذكية المدرّبة فى أعماق الحقيقة... إنه يقول للأمريكيين إذا كنتم تريدون حقا أن تحاربوا الإرهاب .. فلا تحاربوه فى العراق أو أفغانستان .. الإرهاب هنا قائم فى عقولنا وفى أسلوب معاملتنا مع الآخرين وفى سياساتنا الإمبريالية الإستغلالية وفى غطرستنا ونزعتنا الإستعلائية فى العالم ... ثم يتقدّم لهم بعدد من النصائح التفصيلية قد تثير الضحك ولكنها لاتتجاوز الحقيقة والواقع .. ونحن هنا نجتزئ منها بالنصائح التالية:
١- عندما تقومون بانقلاب ضد زعيم دولة منتخب ديمقراطيًّا – إفعلوها صحّ – فلا تفرضوا على شعوب هذه البلاد ديكتاتورًا من صنعكم يسومها سوء العذاب كما فعلتم في شيلي وإندونيسيا وجواتيمالا وغيرها من بلاد العالم ... [مصر هي النموذج الأحدث].
1- عندما تحاولون قتل رئيس دولة كوبا مرة ثانية تأكدوا أولًا أن السيجار الذي ستهدونه إليه محشو بنوع جيد من المتفجرات حتى لا تتكرر المهزلة [يقصد مؤامرة خليج الخنازير الفاشلة] ..
2- عندما تساعدون شركاتكم على نهب ثروات البلاد الأجنبية فلا تنسوا أن هذا سيجعل شعوب هذه البلاد تكرهنا من الأعماق..
3- كي تكونوا جادين في دعوتكم لنشر الديمقراطية في العالم لا تحاربوا النتائج التي أفرزتها الديمقراطية في بعض البلاد .. [ كما حدث فى شيلى وفى فلسطين].
4- توقفوا عن مساندة الأنظمة الدكتاتورية المستبدة ؛ لأن الشعوب لن تغفر لنا هذا الموقف أبدًا ...
5- عندما يقتلون مدنيين منا تقولون هذا إرهاب .. أما إذا قتلنا منهم عشرات الألوف كما في العراق وأفغانستان تقولون إنها عمليات إضطرارية غير مقصودة وأنتم تعرفون أنكم تكذبون ..!
ثم ينتقل إلى بوش فيقول له:
* عندما تعلن أن مهمتك قد أُنجزت وانتهت الحرب .. كان عليك أن تتأكد أولًا .. فإنجاز المهمة لا يكون إلا بانسحاب القوات الأمريكية من العراق..!
* فيم هذا الضجيج حول الأسلحة النووية التى يملكها أو يعتزم إمتلاكها غيرنا ..!! لقد قتلنا نحن بهذه الأسلحة أكثر مما فعلته أي دولة أخرى في العالم .. وأول من يجب تدمير أسلحته النووية هو نحن .. أليس كذلك ..؟
* يجب أن نتوقف عن لعب دور شرطي العالم .. فنذهب إلى مناطق إنتاج البترول ونقول لهم ارفعوا أيديكم .. سلّموا البترول..!
* ماذا لو حاولنا مساعدة الآخرين ..؟ ماذا لو كففنا عن إرهاب الناس ونهب ثرواتهم وتسخيرهم كالعبيد لخدمة مصالحنا ..؟ .. علينا أن نعترف بأننا نحن الذين صنعنا الإرهاب بسلوكنا الأناني تجاه العالم .. ولن يتحقق لنا أمن إلا إذا تأكدنا أن كل الناس يحصلون على احتياجاتهم الحيوية ويحلمون بحياة أفضل .. لنتأكد على الأقل أننا لسنا الذين نسرق أحلامهم..!
ضمن نصائح مايكل مور للأمريكيين لوقف الإرهاب في العالم تأتي نصيحته عن إسرائيل ، حيث يقول: ربما يكون من المناسب أن تعرفوا لماذا فاض الكيل بمئات الملايين من شعوب العالم بالقارات الثلاثة على امتداد الأرض من مراكش على المحيط الأطلسي إلى الفلبين على المحيط الهادي ..؟ إنه بسبب ما تفعله إسرائيل في فلسطين .. كُفّوا عن ترديد تلك الأسطوانة المشروخة عن "اللاسامية " وتخويف الناس بها فأنا أتحدث عن حقيقة: أننا نحن الأمريكيين نساند إسرائيل في حربها ضد الشعب الفلسطيني ، والآن دعونا نتساءل: من أين جاء العرب بفكرة المظلومية هذه .. يقول مور ردّا على تساؤله: ربما حدث هذا عندما تطلّع طفل فلسطيني إلى السماء فرأى طائرة أباتشي أمريكية تطلق صاروخاً يسقط في غرفة نوم أخته الطفلة فيمزق جسدها مِزَقًا..ً!
بعض الأمريكيين سيقول لك معترضًا هل يكفي هذا سببا ليرقص الفلسطينيون في الشوارع فرحا عندما هوجم مركز التجارة العالمي وقتل تحته ثلاثة آلاف أمريكي؟! ثم يتابع: لقد قُتل كثير من الأطفال الإسرائيليين أيضا بيد الفلسطينيين .. ولكنى أعتقد أن الإسرائيليين يعلمون أنهم مخطئون وأنهم سوف يفعلون ما يفعله الفلسطينيون لو كانوا في مكانهم ... ثم يقترح مور الآتي:
"هناك طريقة لإيقاف القنابل البشرية التى تُرعب الإسرائيليين .. إمنحوا الفلسطينيين بعض طائرات أباتشي قاذفة الصواريخ كما فعلتم مع إسرئيل .. وكما تعطون إسرائيل أربعة مليارات من الدولارات سنوياً أعطوا الفلسطينيين أيضا نفس المبلغ من المال .. ثم دعوا الفلسطينيين والإسرائيليين يتقاتلون حتى يُفنى بعضهم البعض .. وبذلك تنتهي المشكلة .. و دعونا نستريح.. رؤية ساخرة ، ولكنها تكشف عن طرف من مكنونات مايكل مور التى لا يستطيع أن يعبّر عنها كلها بنفس القوة والصراحة المعهودة فيه..!