مناهج المفسرين في التفسير الموضوعي للقرآن (3) .. سورة "يس" نموذجا
نؤكد بداية أننا هنا لا نفسر القرآن الكريم ولا نجتهد في تفسيره، فللتفسير رجاله الذين يملكون أدواته والتي لا نزعم أننا نحسب عليهم– رحم الله من سبق، وحفظ ووفق من هو منهم على قيد الحياة – ولكننا نحاول أن نتدبر ونفهم، وننقل عن المفسرين الثقاة كمدخل لفهم كتب التفسير الموضوعي ومناهجه إمتدادا للجزء السابق من الدراسة خاصة وأن الله سبحانه أمرنا بتدبر آيات كتابه الكريم "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82 النساء) ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24 محمد).
*****
خصائص السور المكية
سورة "يس" سورة مكية تقع في 83 آية، يقول الشيخ سيد قطب في كتابه المبدع "في ظلال القرآن": "هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة. وإيقاعات سريعة. ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثاً وثمانين، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها سورة فاطر وعدد آياتها خمس وأربعون.وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص، فتتلاحق إيقاعاتها، وتدق على الحس دقات متوالية، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها. وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار".انتهى
والسور المكية لها خصائصها ومن المفيد أن نعرض لأهم هذه الخصائص مقارنا بالسور المدنية فيما يلي:
- التركيز على قضايا العقيدة وبناء أسسها: الإيمان والكفر (بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره) – التوحيد والشرك - الإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار، إضافة إلى الاهتمام بالأخلاق ( الجانب التربوي في الإسلام: العقيدة والأخلاق) ، في حين أن السور المدنية تركز على قضايا التشريع (عبادات وأخلاق ومعاملات وحدود) لتنظيم المجتمع المسلم.
- عرض قصة الخلقوقصص الأنبيـاء والأمم السابقة. وكل سورة فيها آدم وإبليس فهي مكية باستثناء سورة البقرة.
- تأكيدا على قضايا العقيدة يكثر القسم بالله واليوم الآخر والبعث والقرآن.
- خطاب كافة الناس وكثرة إستعمال "يا أيها الناس" خاصة وأن دعوة الإسلام في بدايتها، على عكس السور المدنية التي تكثر من خطاب المؤمنين أو المسلمين في المجتمع المسلم.
- قصر السور المكيةوآياتهابصورة عامةمقارنة بالسور المدنية التي تميل إلى الطول لحاجة قضايا التشريع إلى الشرح والتفصيل (الأحكام والفرائض والحقوق وأنصبة الميراث وأحكام المعاملات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وأحكام الجهاد وشروطه). إضافة إلى قوة ألفاظها والتي تتطلبها قضايا العقيدة.
- تبدأ الكثير من السور المكية بحروف الهجاء مثل: ألم، ألر، حم. كما تتحدى السور المكية العرب بالإتيان والمجيء بسورة من مثل سور القرآن الكريم.
- كل سورة فيها لفظ ” كلا ” فهي مكية ، وذُكرت ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة من السور المكية.
- . تتميّز السور المكيّة بوجود السجدة في الكثير منها وبما تتضمنه من تعزيز للعقيدة وتأكيد لوحدانيته سبحانه.
- وفي حين يكثر في السور المكية مجادلة الكفار والمشركين وفضح أعمالهم من وأد للبنات وأكل أموال اليتامى وسفك الدماء،يكثر في السور المدنية مجادلة أهل الكتابوكشف مواقفالمنافقين وفضحهم باستثناء سورة العنكبوت التي تفضح المنافقين وهي مكية.
*****
خطوات منهجية مبدئية بغرض التفسير الموضوعي
ولكي نتدبر السورة ونفسرها تفسيرا موضوعيا يحسن أن نقرأها قراءة مبدئية وتبين سياق السورة لتحديد نقاط أربع تساعد على تدبر السورة والقدرة على تفسيرها موضوعيا:
- تحديد المقصد الكلي من السورة.
- تحديد مقدمة السورة وخاتمتها.
- تقسيم متن السورة إلى سياقات متماسكة ( محاور وعناصر ).
- تحديد الترابط المنطقي بين سياقات السورة ومقدمتها وخاتمتها وارتباطها بالسورة السابقة واللاحقة لها.
*****
سياق سورة يس في ضوء قرائتها الأولية
بقراءة سورة يس قراءة أولية وفقا للمنهج السابق لتحديد النقاط الأربع السابقة والمساعدة على تدبر السورة وتفسيرها موضوعيا يمكن تلخيص ذلك في الجدول التالي (خريطة السورة):
*****
المقصد الكلي (الغاية الكبرى) لسورة يس
المقصد الكلي للسورة هو غايتها الكبرى ( العقائدية والتربوية والشرعية) وتحدد محورها الرئيسي الذي تتمحور حوله السورة وقضيتها الأساسية التي ترتكز عليها، والمقصد الكلي للسورة ضرورة لربط السورة بالسورة السابقة واللاحقة لها وبدونه يصعب تحديد ذلك. وهي قضية اجتهادية قد يختلف في تحديدها المفسرون، حتى وإن اتفقوا فمن الصعب أن يتفقوا في الصياغة، وبقدر الاختلاف في تحديد المقصد الكلي من السورة بقدر ما يكون الاختلاف في التفسير الموضوعي لها.
ومقاصد السور ليست تفسيرا، وإنما المقصود هنا بمقاصد السور؛ ذكر المحور الأساس التى تتمحور حوله كل سورة من سور القرآن الكريم، وقضيتها الأساس التي ترتكز حولها. واستحضار مقصد السورة عند قرائتها يساعد على فهمها وتدبرها وتأمل معانيها.
وبقراءة سورة يس قراءة أولية وفقا للجدول السابق (خريطة السورة) يمكن أن نصيغها وفقا لما يلي "التركيز على قضايا العقيدة الخاصة بتكذيب الرسل والوحي وإنكار البعث والحساب والجزاء الأخروي ومحاجاتهم بآيات الله سبحانه التي سخرها للبشر وتبشير المؤمنين وإنذار الكفار المصرين على الكفر".
*****
مقدمة سورة يس
تأتي مقدمة سورة "يس" في اثنتي عشرة آية كما أوضحنا في خريطة السورة، وترتبط المقدمة ارتباطا كبيرا بموضوع السورة ومقصدها الكلي:
- تؤكد السورة على بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم والغرض من الرسالة في خمس آيات، فتبدأ بقسم من الله سبحانه بالقرآن الحكيم وقوة برهانه – إذ كتب بنفس حروف الهجاء التي بين يدي من أرسل إليهم واستحالة أن يأتوا بآية من مثله رغم تمكنهم من اللغة– يقسم بالقرآنأنه صلى الله عليه وسلم من المرسلين على الصراط المستقيم الذي أشار إليه في فاتحة الكتاب، وأن هذا القرآن الحكيم تنزيل من الله العزيز الرحيم وليس من عند محمد كما يشكك الكفار والمشركون، وأن آية كونه من عند الله، - كما يقول الشيخ سيد قطب في الظلال - أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف.ويصف القرآن وهو يقسم به بأنه "القرآن الحكيم" والحكمة صفة العاقل. والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة. وهي من مقتضيات أن يكون حكيماً.
- والحكمة من هذا التنزيل هي الإنذار والتبليغ:إنذار الكفار المصرين على تكذيب الرسول وإنكار البعث في خمس آيات تالية. وهذا القرآن منذر لهؤلاء الغافلين لأنه لم يصلهم من قبل ولم ينذر آبائهم به، ولقد اختار الله سبحانه هذا الكتاب المنذر ليكون معجزة رسوله الكريم ليحرك عقولهم ويزيح عنها الأوهام على شرط أن يتحركوا ويعوا كما يقول شيخنا الفقيه "محمد الغزالي". هؤلاء المشككين في بعثة الرسول والمكذبين للبعث سجناء وراء جدران لا يرون فيها شيئا "إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)"والمقمحون رؤوسهم معوجة من شدة القيد فلا يحسنون الرؤية"وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)" ولا تجدي معهم النذر. والتقليد الأعمى يخلق أجيالا من هذا النوع المتحجر لا يصلح لشيء!!.
- إن النذر تجدي مع المؤمنين فبشرهم بمغفرة وأجر كريم"إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ –11"
- التأكيد على قضية البعث وتسجيل أعمال البشر تمهيدا لحسابهم يوم القيامة "إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ -12".
*****
متن سورة يس
توضح خريطة السورة أن متن السورة يأتي في ثلاثة أجزاء وهذا قريب مما قاله شيخنا الغزالي : "وسورة يس – وتسمى قلب القرآن – يمكن أن نقول أنها مكونة من مقدمة وثلاثة فصول. أما المقدمة، فهي - كما رأيت – حديث عن القرآن ومستمعيه، وراديه أو مؤيديه. وأما الفصول الثلاثة فهي أدلة منوعة على صدق ما دعا إليه: أولها دليل تاريخي تضمن قصة موجزة عن قرية تشبه مكة ناوأت المرسلين وضاقت بالوحي، وثانيها دليل عقلي فتح الأنظار على الكون علوه وسفله، واكتشف من نظامه وانسجامه ما يدل على عظمة خالقه. والدليل الثالث دليل تربوي يأخذ من حقيقة البعث والجزاء ما يكبح الغرائز ويزيح الغفلة، ويسوق النفوس إلى الحق بمشاعر الرغبة والرهبة.
وأظننا في رسم خريطة السورة لم نبتعد كثيرا عما ذهب إليه شيخنا إلا في حدود الصياغة، ولكننا زدنا على الشيخ وجود خاتمة للسورة.
أما الشيخ سيد قطب رحمه الله فقسم السورة كلها كما يلي " ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط" ولم يضع بينهم مقدمة أو خاتمة. الشوط الأول يقابل ما أسميناه بالمقدمة وألحق به أغلب ما أسميناه بالجزء الأول (من آية 1 حتى آية 27) والشوط الثاني ضمنه معظم السورة ( آية 28 حتى آية 68) وهو يقابل ما أسميناه بمتن السورة، ثم الشوط الثالث وهو يقابل ما أسميناه بخاتمة السورة (آية 69 حتى آية 83).
وتوضح خريطة السورة أن متن السورة يأتي في ثلاثة أجزاء:
- قضية التكذيب بالرسل– وهي ما أسماها الشيخ الغزالي بالدليل التاريخي - وتأتي في عشرين آية ( آية 13 حتى آية 32) مقسمة إلى ثلاثة عناصر.
- محاجاة الكفار المصرين على تكذيب الرسول وإنكار البعثبآيات الله سبحانه التي سخرها للبشروتأتي في خمس عشرة آية ( آية 33 حتى آية 47) مقسمة إلى أربعة عناصر.
- ويدور الجزء الثالث من متن السورة حول قضية البعث والحساب والجزاءوتأتي في إحدى وعشرين آية ( آية 48 حتى آية 68) مقسمة إلى أربعة عناصر.
*****
الجزء الأول - قضية التكذيب بالرسل
وهي ما أسماها الشيخ الغزالي بالدليل التاريخي - وتأتي في عشرين آية ( آية 13 حتى آية 32) مقسمة إلى ثلاثة عناصر:
- تكذيب أصحاب القرية للمرسلين في سبع آيات ( آية 13 حتى آية 19).
- قضية الرجل المؤمن الذي يدعو لاتباع المرسلينفي ثمانآيات ( آية 20 حتى آية 27).
- عاقبة أصحاب القرية المكذبينفي خمسآيات ( آية 28 حتى آية 32).
يدور هذا الجزء كما يقول الشيخ الغزالي حول:
1 - "قصة موجزة عن قرية تشبه مكة، ناوأت المرسلين وضاقت بالوحي ظنا منهم أن المرسلين جاءوا لاستلاب سلطانهم، ولذلك سرعان ما تبرموا وتهددوهم وتشاءموا من مقدمهم (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ -18)"، إلى هنا.
وهنا أدرك المرسلون أن قومهم قوم مسرفون في التكذيب والعصيان .... (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ - 19)
2- يضيف شيخنا الغزالي "لكن الله يخلق رجالا يعشقون الحقيقة ويضحون من أجلها ويعانون في سبيلها، فيقبل رجل من بعيد ينصح الناس باتباع المرسلين لأنهم ناس متجردون لا ينشدون جاها ولا مالا وأن الله الذي يدعون إليه هو الحق المبين وما عداه وهم لا وجود له، يضر ولا ينفع "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)"
ويكذب الضالون المكذبون الرجل الصالح كما كذبوا المرسلين، فيعيد الكرة "إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)" فيصروا على كذبهم ويذكر القرآن الكريم أن الرجل الصالح لقى ربه بعد ذلك، ولكن كيف لقى ربه؟ هل مات أم قتل؟ يسكت القرآن عن ذلك، المهم أنه أدى مهمته ثم لقى ربه ونال جزاءه الكريم، "قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)" والعجيب في الأمر أن الرجل الصالح نال جزاءه بالمغفرة والأجر الكريم ورغم ذلك لم ينسى رسالته وهو في الآخرة فيدعو لهم "قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)" مثله مثل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين استشهدوا في أحد، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ، قالوا : من يبلغ إخواننا [ عنا ] أنا في الجنة نرزق ، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب ؟ فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى : قوله : "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)" آل عمران -) رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من طريق عثمان بن أبي شيبة. وهكذا حال أصحاب الرسالات في الدنيا والآخرة، تعيش رسالتهم معهم.
3 – ويتناول العنصر الثالث في هذا الجزء عاقبة أصحاب القرية المكذبين، هل يسلط الله عليهم غضبه متمثلا في جنده من الملائكة؟ إن أمرهم أهون عند الله من ذلك، "وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)" إن غرور هؤلاء وما يلقون به الرسل من إهانة وتكذيب فادح الثمن. وتشتد العقوبة مع كبر الجريمة، "يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)" ألا يتعظون ويعتبرون بمن قبلهم من القرون التي أهلكها الله سبحانه وأنهم لا يرجعون إلى الدنيا؟ ولن يرجعوا إليهم بالتالي، ليس هذا فقط ولكنهم وكل تلك القرون التي أهلكها الله سبحانه سيحضرون جميعا أمامه للحساب والجزاء يوم القيامة، "وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)"
*****
الجزء الثاني - محاجاة الكفار بآيات الله سبحانه
يقدم هذا الجزء أدلة عقلية بمحاجاة الكفار المصرين المكذبينللرسول المنكرينللبعث بآيات الله سبحانه التي سخرها للبشروتأتي في خمس عشرة آية ( آية 33 حتى آية 47) مقسمة إلى أربعة عناصر:
- آية إحياء الأرض الميتة في أربع آيات ( آية 33 حتى آية 36).
- الآيات الكونية (الليل- النهار- الشمس- القمر)في أربعآيات ( آية 37 حتى آية 40).
- آية الفلك المشحون في أربعآيات ( آية 41 حتى آية 44).
- ثم نأتي لختام هذا الجزء ويتمثل في كفر الكفار المصرين على تكذيب الرسول وإنكار البعث بآيات الله وتكذيبهافي ثلاثآيات ( آية 45 حتى آية 47).
ولنلاحظ في كل الآيات السابقة الاتساق العددي المعجز، ثلاث آيات كل آية منهم في أربع آيات، ثم خاتمة هذا الجزء في ثلاث آيات.
1 - آية إحياء الأرض الميتة فيخرج الله منها حبا ( قمحا وشعيرا وذرة ) وجنات (نخيل وأعناب وغيرها من الفواكه والثمار) وغيرها من المحصولات اللازمة لمعيشة الإنسان لمأكله وملبسه ومسكنه (قطن وكتان وورود وغابات) وفجر فيها سبحانه عيون الماء اللازمة لزراعتها.
ولماذا هذه الآية من آيات الله "لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)" ليشكروا الله على إحياء الأرض وإخراج الماء اللازم لزراعتها وإنبات الثمار التي يأكلها الإنسان، ولكن لماذا يشكر الإنسان الله على ما عملته أيديهم؟ الإجابة ببساطة لأن الله سبحانه هو الخالق لهذا الإنسان وهو الخالق لأعضاءه التي تمكنه من زراعة الأرض وخالق عقله الذي يكتسب ويختزن الخبرات اللازمة لهذه الزراعة.
ويختتم الله سبحانه هذه الآية المعجزة بمقابلة تؤكد على وحدانية الخالق فهو الذي خلق الأزواج كلها من نبات الأرض ومن الحيوان ومن البشر أنفسهم ومما لا يعلمون "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)".
2 - الآيات الكونية (الليل- النهار- الشمس- القمر) إطلالة خاطفة على الكون وخلقه، واستمرار في المقابلة فكما خلق سبحانه (الذكر والأنثى) خلق (الليل والنهار) وخلق (الشمس والقمر) أليس في هذا دليل على وحدانيته سبحانه؟
يقول شيخنا الغزالي "إن الظلام يسود أرجاء الكون، وأشعة الشمس تتحول إلى ملاءة بيضاء عندما تستقبلها الأرض. فإذا جمع الله الأشعة عادت الظلمة الأولى، ولذلك جاء التعبير عن الليل والنهار بهذه الألفاظ "وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)" ويضيف الغزالي "وربما بدا للناس أن الشمس والقمر في مدار واحد، وهذا خطأ، فلكليهما مداره، ولن يلتقيا، وإني أتصور أحيانا هذه الكواكب، فأتساءل: ما يمسكهما في فضائها؟ ما يدفعها في مجراها؟ وبأي طاقة تسير؟ من أحكم نظمها وهي ألوف الألوف فضبط مكانها وزمانها وشروقها وغروبها؟ ونحن البشر في زاوية من الكون الكبير نرقب آيات ربنا، ومنا المؤمن ومنا الكافر" انتهى كلام الشيخ المبدع (كلاهما مبدع الشيخ وكلامه، رحمه الله رحمة واسعة إزاء ما قدم لدينه وفقه الناس في آياته).
"وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)".
ويقول سيد قطب: التعبير القرآني عن هذه الظاهرة في هذا الموضع تعبير فريد. فهو يصور النهار متلبساً بالليل؛ ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون. ولعلنا ندرك شيئاً من سر هذا التعبير الفريد حين نتصور الأمر على حقيقته. فالأرض الكروية في دورتها حول نفسها في مواجهة الشمس تمر كل نقطة منها بالشمس؛ فإذا هذه النقطة نهار؛ حتى إذا دارت الأرض وانزوت تلك النقطة عن الشمس، انسلخ منها النهار ولفها الظلام وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام. فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير...... الخ تفسير الآيات.
3 - آية الفلك المشحون: لقد حمل الله من نجا من ولد آدم في سفينة نوح (الفلك المشحون) ومعهم كافة أجناس المخلوقات لتستمر الحياة بعد انتهاء الطوفان – رغم قدرته سبحانه على خلق خلق جديد ولكن إدراك هذه المعجزة كان سينتفي لو حدث ذلك – وخلق الله سبحانه للبشر – كل البشر – ومكنهم من صنع مثل سفينة نوح من المراكب والسفن التي تيسر انتقالهم. ورغم أن الله سبحانه هو الخالق وهو الميسر وهو المعجز فإنه لو شاء لأغرقهم وساعتها لن يجدوا منقذا لهم ولن يجدوا من يستجيب لصراخهم "وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)".
يقول شيخنا الغزالي "إن البحر أكبر من البر أربع مرات، وعالمه أوسع من عالمنا، وقد عرفنا للأجسام الطافية فيه قانونا مضبوطا، فهي تجري أو تغوص بقدر وعندما يتعرض الناس لأخطاره فلا مغيث لهم إلا الله، فهل يذكرون ذلك عندما يأمنون؟
4 - ثم نأتي لختام هذا الجزء المتمثل في الآيات المعجزة الثلاث، ويتمثل في إصرار الكفار على تكذيب الرسول وإنكار آيات الله المعجزة وتكذيبها.
فإذا قيل لهم: إحذروا أمر الآخرة وأهوالها (ما بين أيديكم) وأحوال الدنيا وعقابها (وما خلفكم) رجاء رحمة الله أعرضوا ولم يستجيبوا "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)".
وما تأتي هؤلاء الكفار من آيات وعلامات معجزة كتلك الآيات الثلاث السابقة التي تهديهم إلى الحق وتثبت صدق رسوله، إلا أعرضوا عنها، "وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)" ويزداد جحودهم برفض الإنفاق من الرزق الذي رزقهم الله، ويتساءلون مستنكرين ذلك ومتهمين المؤمنين بالضلال، "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)".
*****
الجزء الثالث - قضية البعث والحساب والجزاء
ويدور الجزء الثالث من متن السورة حول قضية البعث والحساب والجزاءوتأتي في إحدى وعشرين آية ( آية 48 حتى آية 68) مقسمة إلى أربعة عناصر:
- الكفر بالبعث في سبع آيات ( آية 48 حتى آية 54).
- الجنة جزاء المؤمنينفي أربع آيات ( آية 55 حتى آية 58).
- جزاء المجرمين الذين عبدوا الشيطان واتبعوه في ست آيات ( آية 59 حتى آية 64).
- مشاهد حساب الكافرين في أربع آيات ( آية 65 حتى آية 68).
يشير الشيخ الغزالي إلى "أن الحضارة الحديثة تغفل البعث والحساب والجزاء وتستهجن الحديث عنهما، وتخيل للناس أن مصيرهم لا يعدو مصير الدواب النافقة، لا حس ولا حساب"، أربعة عناصر في هذا الجزء نفصلها فيما يلي:
1 - الكفر بالبعث: يتساءل الكفار على وجه التكذيب والاستعجال، "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)". هؤلاء الكفار المكذبين يتعجلون وعيد الله لأنهم يكذبونه، ويشككون في صدق المؤمنين، فإذا بصيحة الساعة تأخذهم فجأة وهم يختصمون في أمور دنياهم فلا يستطيعون التواصي أو أن يوصوا أحدا بشيء أو الرجوع إلى أهلهم فيموتون في أسواقهم ومواضعهم على حالهم.
"مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)".
ثم ينفخ في الصور فترد أرواحهم إلى أجسادهم فإذا هم يخرجون سراعا إلى ربهم من قبورهم متسائلين في ندم: ياويلنا – يا هلاكنا – من أخرجنا من قبورنا؟ ثم يستدركون: هذا ما وعد الرحمن وأخبر عنه المرسلون الصادقون، ثم ينفخ نفخة أخيرة فإذا جميع الخلق لدى الله سبحانه ماثلون للحساب والجزاء، والحساب بالعدل فلا تظلم نفس شيئا ولا يجزى الخلق إلا بما كانوا يعملونه في الدنيا.
"وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)"
وكما يقول الشيخ الغزالي: "ويبدو أنه كما تجيء المنية بغتة، تقوم الساعة بغتة دون ترقب من الناس أو محاذرة.
2 - الجنة جزاء المؤمنين: وبعد البعث الحساب يكون الجزاء، ويكون نصيب المؤمنين الجنة، وأهل الجنة يومها مشغولون عن غيرهم بالنعيم الذي يتمتعون به هم وأزواجهم، متكئين على الأسرة المزينة تحت الظلال الوارفة. وفي الجنة ينعمون بالفاكهة وبكل ما يطلبون من ألوان النعيم. ثم يتمتعون بالنعيم الأكبر حينما يلقي عليهم ربهم الرحيم السلام فينعمون بالسلامة التامة من كل الوجوه.
"إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)".
3 - جزاء المجرمين الذين عبدوا الشيطان واتبعوه: يستطرد السياق القرآني إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة– كما يقول الشيخ سيد قطب - ويبكت الله سبحانه الكافرين فيناديهم بالمجرمين مطالبا إياهم أن يتميزوا عن المؤمنين بالانفصال عنهم، "وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)" ، وموبخا إياهم على عبادتهمللشيطان الذي أضل الكثير منهم، ومعنفا إياهم: ألم يكن لكم عقل ينهاكم عن اتباعه، ومخبرا إياهم أن هذه هي جهنم التي حذرناكم منها لاتباعكم الشيطان في الدنيا، فادخلوها اليوم وصلوا نارها وحرها بكفركم بالله وتكذيبكم رسله وإنكاركم للبعث.
"أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)".
4- وتنتقل الآيات إلى "مشاهد حساب الكافرين" بأن يختم الله على أفواههم فلاينطقون، وتتكلم أيديهم بما بطشت به، وأرجلهم بما بما سعت إليه في الدنيا وارتكبت به من آثام، ولو شاء الله لطمس على أعينهم وأذهب أبصارهمليبادروا إلى الصراط فكيف يتجاوزوه وقد طمست أبصارهم، ولو شاء الله لغير خلقهم وأقعدهم في مكانهم فلا استطاعواالمضي أمامهم ولا الرجوع وراءهم، ومن يطل الله عمره يعيده إلى حالة الطفولة الأولى من ضعف العقل والجسد، أفلا يعقلون، إن من يفعل هذا قادر على بعثهم من جديد
"الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)".
*****
خاتمة السورة
قدمنا في بداية هذا الجزء من الدراسة "خريطة منهجية مبدئية بغرض التفسير الموضوعي" تساعد في تدبر السورة وتفسيرها تفسيرا موضوعيا وقلنا أن السورة تتكون من مقدمة ومتن وخاتمة يربط بينها المقصد الكلي من السورة وأن تقسيم متن السورة إلى سياقات متماسكة ( محاور وعناصر ) يحدد الترابط المنطقي بين سياقات السورة ومقدمتها وخاتمتها وارتباطها بالسورة السابقة واللاحقة لها.
وخاتمة سورة يس ترتبط ارتباطا وثيقا بالمقصد الكلي للسورة وترتبط بالتالي بمقدمتها ومتنها، وتأتي في خمس عشرة آية ( آية 69 حتى آية 83) مقسمة إلى خمسة عناصر:
1- تكليف الرسول بالرسالة وإنزال القرآن عليه في آيتين ( آية 69- آية 70).
2- خلق الأنعام وتسخيرها للبشر وتأتي في ثلاث آيات ( آية 71حتى آية 73).
3- عاقبة الشرك بالله والتسرية عن الرسول في ثلاث آيات ( آية 74حتى آية 76).
4- الله الذي خلق قادر على أن يبعث خلقه وتأتي في ثلاث آيات ( آية 77حتى آية 79).
5- قدرة الله خالق الكون الذي بيده ملكوت كل شيء وتأتي في أربع آيات ( آية 80 حتى آية 83).
ونلاحظ أن:
- تبدأ الخاتمة كأغلب خواتيم سور القرآن الكريم بتوجيه الحديث لرسولنا الكريم - أو الحديث عنه –لتستخلص أمة محمد (أمة الإسلام) العبرة من القرآن الكريم سواء كان قصص الأمم السابقة أو سواء كان تشريعا لأمة الإسلام.
"وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)"
إن الله سبحانه لم يعلم محمدا الشعر، وما ينبغي له أن يكون شاعرا، وهذا دليل على صدق رسالته وأن هذا القرآن منزل عليه وليس من عنده، فإذا كان الشعراء لا يستطيعون الإتيان بسورة منه، فما بالنا بمن لا يعرف الشعر. وأن هذا القرآن ما هو إلا ذكر ونذير لمن كان حي القلب مستنير البصيرة ويحق به العذاب على الكافرين بالله وبالرسالة وبالبعث (المقصد الكلي للسورة).
وهذا العنصر (تكليف الرسول بالرسالة وإنزال القرآن عليه) مرتبط بالمحور الأول من السورة (قضية تكذيب الرسل)
- العنصر الثاني في الخاتمة (خلق الأنعام وتسخيرها للبشر) مرتبط بالمحور الثاني في السورة والخاص بــ (محاجاة اللهللكفار المصرين المكذبينللرسول المنكرينللبعثبآيات الله سبحانه التي سخرها للبشر) فخلق الأنعام وتسخيرها للبشر آية من آيات الله سبحانه مثلها مثل: (إحياء الأرض الموات – الآيات الكونية – تسخير الفلك التي تجري في البحر). "
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)".
- العنصر الثالث في الخاتمة (عاقبة الشرك بالله والتسرية عن الرسول) مرتبط بالمحور الثالث في السورة والخاص بـ (جزاء المجرمين الذين عبدوا الشيطان واتبعوه).
"وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)".
- العنصر الرابع في الخاتمة (الله الخالق قادر على أن يبعث خلقه) مرتبط بالمحور الثالث في السورة والخاص بـ (قضية البعث والحساب والجزاء– العنصر الأول الخاص بالكفر بالبعث).
يقول سيد قطب رحمه الله: وفي نهاية السورة ترد قضية البعث في صورة حوار: "أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
- العنصر الخامس في الخاتمة يتحدث عن (قدرة الله خالق الكون الذي بيده ملكوت كل شيء) مرتبط بالمحور الثاني في السورة والخاص بــ (محاجاة اللهللكفار بآياته سبحانه التي سخرها للبشر)
"الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)".
لتنتهي السورة الكريمة بآيتين حاكمتينتصور قدرته سبحانه في أوضح تجلياتها لعل الإنسان يتذكر أو يخشى وهو ما أسماه شيخنا المبدع سيد قطب بالإيقاع الأخير في السورة:
"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)"
*****
التصوير الفني والبعد البلاغي في السورة
يقول سيد قطب رحمه الله: "هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها، تتكرر في السور المكية. ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة، تحت ضوء معين، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها."
هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة– يقصد سورة يس - من مشاهد القيامة بصفة خاصة ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها. ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية: مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مُسخّرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون!
وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه: منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر: "إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) (9)" ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار"فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)" ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة واحدة لا تزيد: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)" وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود.
*****
لمحات أو خواطر قرآنية
- هناك ربط قوي بين آيات السورة وبعضها البعض، وبين مقدمة السورة ومتنها، يقول سبحانه في مقدمة السورة "إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)" ولنرى جزاء الرجل الصالح في متن السورة "قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)" نفس الجزاء المغفرة والأجر الكريم، وهذه إحدى ثمرات التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.
- يقول سيد قطب رحمه الله: "يعرض الله سبحانه صورة البشرية الضالة على مدار القرون، وينادي على العباد نداء الحسرة وهم لا يتعظون بمصارع الهالكين، الذين يذهبون أمامهم ولا يرجعون إلا يوم الدينوإذا كان الهالكون الذاهبون لا يرجعون إلى خلفائهم المتأخرين، فإنهم ليسوا بمتروكين ولا مفلتين من حساب الله بعد حين:"أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)"
ويضيف في موضع تال: "ثم إذا الصيحة الأخيرة. صيحة واحدة. فإذا هذا الشتيت الحائر المذهول المسارع في خطاه المدهوش. يثوب: "إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)" .. وتنتظم الصفوف، ويتهيأ الاستعراض في مثل لمح البصر ورجع الصدى. وإذا القرار العلوي في طبيعة الموقف، وطبيعة الحساب والجزاء يعلن على الجميع".
ولنلاحظ التوافق بين الآيتين ( 32 – 53 ) أليس القرآن كله من لدن حكيمخبير ؟"الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"( 1– هود)
- ولنلاحظ الربط بين العنصر الثالث في الخاتمة (عاقبة الشرك بالله والتسرية عن الرسول)"وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)" وبين قول العبد الصالح في الجزء الأول "وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)"
ما أجمل أن يعيش الإنسان في رحاب القرآن يتدبر معانيه ويستظل بظلاله.
والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه
حمدا نلتمس فيه موافاة نقطة في بحر نعمه وفضله
سبحانه .. سبحانه
27 يوليو 2016
المصادر:
- الشيخ محمد الغزالي 1995 – "نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم" – دار الشروق – 564 صفحة.
- سيد قطب – "في ظلال القرآن" – دار الشروق
-