ركزنا في مقالنا السابق (
نتائج توصيات الصندوق| لم ينجح أحد - خبرة الدول التي عملت بها) على تجارب الدول التي استجابت لتوجيهات صندوق النقد ومؤسسات التمويل الدولية، فحررت تجارتها وفتحت أسواقها وسارت حسب توصيات الليبرالية الجديدة وما سمي بتوافق واشنطن، واتضح لنا أن المحصلة هي: لم ينجح أحد .. صحيح أن درجات الفاشلين تراوحت بين الفشل البسيط والفشل الكارثي، لكن دولة واحدة لم تتمكن من كسر طوق التخلف باتخاذ مسار كالذي يسميه إقتصاديينا "الإصلاح الإقتصادي"، حتى تلك التجارب التي بدأت بداية جيدة وحققت بعض النمو في الأعوام الأولى، سرعان ما انتكست خلال عقد واحد (المكسيك هي المثال الأشهر لكنه ليس المثال الوحيد)، وفي هذا المقال نعرض الوجه الآخر: كل الدول التي نجحت في الخروج من حالة التخلف فعلت ذلك بالمخالفة لتوجيهات الليبرالية الجديدة.
يشيد الإقتصاديون والصناعيون في كل أرجاء المعمورة بالمعجزة الآسيوية – كوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا وسنغافورة وهونج كونج وتايلند وأندونيسيا، والهند والصين طبعا – معتبرين أنها دليل على جدارة نظام السوق وتحرير التجارة وانفتاح الأسواق في كسر طوق الفقر والتخلف .. لكن الواقع أنه لا توجد تلك الصلة التي يزعمونها بين الإزدهار الإقتصادي في هذه الدول وبين تلك الأفكار الليبرالية الجديدة.
فبغير استثناء طبقت كل هذه البلدان استراتيجية يستهجنها الإقتصادي الليبرالي استهجانا شديدا، انطوت على دعم مالي عظيم على كل مستويات الأنشطة الإقتصادية، فبعكس المكسيك التي تم نحرها على مجزرة المنافسة الدولية حتى أوشكت على إعلان إفلاسها، طورت هذه الدول الآسيوية أساليب للتنمية الموجهة حكوميا، فبالنسبة لهذه الدول لم يكن الإنفتاح على السوق العالمية هو الهدف، بل مجرد وسيلة لبلوغ أهدافها الخاصة، وبالتالي لم تتجه إليه إلا بتحفظ واضح وبعد تمحيص شديد إختارت خلاله القدر الذي تحتاجه، والأسلوب الذي يلائم ظروفها، والقطاعات الاقتصادية التي يمكن أن تستفيد من الانفتاح على الخارج.
ففي كل هذه البلدان اتبع الإنفتاح الإقتصادي ذات المبادئ التي اتبعتها اليابان لاستعاده مكانتها بعد الحرب العالمية الثانية، فالرسوم الجمركية المرتفعة والتعليمات الإدارية بشأن المواصفات والجودة والنواحي الفنية المختلفة صممت كي تعوق الإستيراد في كل القطاعات التي يرى المخططون أن الصناعة الوطنية فيها لا تزال غير قادرة على المنافسة الدولية ويتعين توفير قدر من الحماية لها، وعلى العكس من ذلك تشجع الحكومات بكل الوسائل – إبتداء من التسهيلات الضريبية وإنتهاء بتقديم الهياكل التحتية والمرافق بدون ثمن تقريبا – إنتاج السلع التصديرية (قارن هذا بإصرار هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة على تحقيق أرباح من بيع أراضي الصناعات خاصة الصغيرة منها، وكل ما تتفضل به على الصناعة هو تقليل هامش الربح عنه في أراضي الإسكان والمناطق التجارية)، وذلك وفق خطط ذكية تعمل على زيادة المكون المحلي في هذه السلع حتى تصل في النهاية إلى منتجات محلية الصنع صالحة للتصدير.
ولا يكتفي مهندسو التنمية الإقتصادية الآسيوية بالتدخل في توجيه تدفقات القروض الأجنبية قصيرة الأجل في أسواقهم، وإنما يضعون بالإضافة لذلك شروطا دقيقة للإستثمارات المباشرة التي تقوم بها الشركات متعددة الجنسيات، فماليزيا مثلا تراعي ضرورة أن تشارك الشركات الوطنية – العامة والخاصة – في فروع هذه الشركات بنيب تحددها الدولة، وذلك لضمان تلقي عدد متزايد من العمالة الوطنية الخبرات والمعارف الضرورية للتعامل في السوق العالمي، أضف إلى ذلك أن كل هذه الدول تنفق جزءا معتبرا من ميزانياتها على خلق نظام تعليمي جيد وقادر على رفع المستوى العلمي والفني لمواطنيها.
وفي كل الحالات التي لا تكفي فيها هذه الإجراءات تعقد الدولة إتفاقات إضافية بشأن الحصول على التراخيص وبراءات الإختراع لتضمن نقل التكنولوجيا، بالإضافة إلى أنها تصر على أن يكون للمنتجين المحليين نسبة معتبرة من مكونات إنتاج السلع المعدة للتصدير للسوق العالمية (قارن هذا بخطوط الإنتاج عندنا التي تكاد تكون مجرد تجميع لقطع قادمة من الشركة الأم لا يمثل فيها المنتج المحلي إلا ببعض المدخلات الهامشية)، حتى تضمن بقاء نسبة من الأرباح المتحققة داخل السوق الوطني لتساعد في تمويل مشروعات التنمية، على سبيل المثال أصرت ماليزيا في اتفاقيتها مع شركة ميتسيوبيشي لإنتاج السيارة "بروتون" أن يتم تصينع 70% على الأقل من أجزاء السيارة داخل ماليزيا، ونفس المبدأ طبقته أندونيسيا مع شركتين كوريتين للسيارات، وذلك بالرغم من كل الإحتجاجات التي قدمتها شركات السيارات الكبرى في دول منظمة التنمية والتعاون الإقتصادي.
إن كل هذه الخطوات، وغيرها، وضعت لخدمة الهدف الرئيسي، وهو أن تظل حكومات هذه الدول هي صاحبة السيادة على إقتصادها الوطني لتضمن أن الرأسمال الوطني والأجنبي يعمل على تحقيق الأهداف التي تضعها السلطة السياسية، ومن لا يرغب في العمل على هدى هذه الأهداف لا يسمح له بالعمل داخل الوطن.
صحيح أن كل بلدان آسيا التي حققت الآن تنمية ملحوظة قد بدأت إنطلاقتها بإنتاج مدخلات صناعية للشركات متعددة الجنسيات، أي أن منتجيها المحليين قد عملوا لفترة كورش ثانوية لهذه الشركات، إلا أن المسئولين الحكوميين لم ينسوا أبدا هدف حماية إقتصادهم الوطني وتعزيز عوامل نموه وإزدهاره والعمل على تأمين تمويل استثمارات التنمية المحلية من عوائد ما تصدره فروع الشركات متعددة الجنسيات، وخطوة خطوة خلقوا لأنفسهم مشروعاتهم الوطنية التي تخضع عادة للسيطرة الحكومية والخاصة مناصفة، وهذه المشروعات بدأت تحتل الآن مكانتها في السوق العالمية، فنسمع عن "هيونداي" و"سامسونج" الكوريتين، و"سيم واربي" الماليزية، وغيرهما في دول أخرى، وقد باتت اليوم هذه الشركات نفسها شركات عالمية متعددة الجنسيات.
خلاصة القول أن إنفتاح الإقتصادي الوطني على الإقتصاد العالمي والإستفادة من إمكانياته لا يتطلب بالضرورة الخضوع لوصفه "الليبرالية الجديدة" التي وضعتها شروط صندوق النقد والبنك الدولي، ففي حين تدعو البلدان الغربية المتقدمة إلى ضرورة تراجع دور الدولة وإعطاء أوسع مجال للسوق الحرة، طبقت البلدان التي نجحت في إقتحام فجوة التخلف أسلوب هو العكس من ذلك تماما، ومن الجدير بالملاحظة أن قادة المؤسسات الإقتصادية الغربية أنفسهم، الذين يرفضون في الولايات المتحدة وألمانيا وإنجلترا مثلا كل أنواع التدخل الحكومي في قراراتهم الإستثمارية رفضا قاطعا .. نعم هم أنفسهم .. يضخون في آسيا استثمارات بالمليارات بالشروط التي تضعها الحكومات الوطنية، والتي لا تجد أي حرج في أن تسمى ما تفعله بأنه تدخل من الدولة بالتخطيط لتوجيه التنمية .. فالأرباح التي تحققها الشركات الغربية من العمل في تلك الإقتصادات الواعدة تنسيها كل التحفظات الأيديولوجية والأفكار الليبرالية الجديدة.
سنحاول في مقالات تالية أن نعرض بإذن الله نماذج للأساليب المتنوعة التي اتبعتها دول آسيا حديثة النمو، المهم أن نؤكد هنا أنها كلها اتفقت في أن الدولة هي التي قادت وخططت للتنمية، وأنها اعتمدت على دور هام للقطاع العام للعمل في المجالات التي لم تكن المبادرات الفردية للقطاع الخاص قادرة على تحمل مسئوليتها.
* الخبير الاقتصادى- وعضو المكتب السياسى لحزب الاستقلال
كن أول من يعلق