أصدق رواية وزارة الداخلية، أقصد جوهر الرواية الخاصة بمحمود شفيق وأنه هو الذي فجر نفسه في الكنيسة المنكوبة. ولكن هذه القصة كاشفة لجذور الارهاب وكيف يتطور ويزداد توغلاً في العنف.
تكشف قصة محمود شفيق ان السياسات الراهنة لن تقضي على الارهاب بل ستزيده توغلا. وسيدفع الجميع الثمن من الخوف وعدم الاستقرار وضحايا أبرياء. ويبدو أن الأمن لاحظ أن قصة محمود شفيق خطيرة فبدأ يمنع الاعلام من التواصل مع أسرته أو أمر أسرته بعدم التعامل مع الاعلام. الروايات الأولى التي نشرت في "الأخبار" أساساً (صحيفة الأخبار) تقول الآتي على لسان الأم حيث تبدو صورتها منقبة وحولها 3 بنات صغار.. وحيث يبدو الانطباع الأول أننا أمام أسرة متدينة، تقول الأم: أن والد محمود شفيق مطرود من العمل (واضح انه هارب) وان شقيقه في السجن وانه هو نفسه مختف ولا تعلم عنه شيئاً منذ حوالي عام. وأن الأسرة تعيش على دخل التوك توك الذي يركبه شقيق آخر لمحمود شفيق (6 أخوة). محمود شفيق صادر عليه حكم بالسجن سنتين لاشتراكه في التظاهر!! وكان طالبا متفوقاً- حسب رواية أمه- في كلية العلوم في الصف الثاني. وأصدرت كلية علوم الفيوم بياناً- وكأنها تنفي تهمة السرقة عن نفسها- أن محمود شفيق مفصول منذ عامين. وتقول رواية الداخلية (التي لا أصدق كل تفاصيلها) ان قضية محمود شفيق كانت حمل سلاح، ولكن متى كانت هناك افراجات في قضايا السلاح؟ يقول أهل القرية لصحيفة الأخبار ان محمود شفيق كان شخصاً عادياً وطبيعياً في حاله ومتدينا تديناً معتدلاً حتى أحداث ما بعد 30 يونيو حيث تطرفت أفكاره. وفي رواية أخرى أنه كان من أتباع حازم أبو اسماعيل وهو لم يكن داعياً للعنف، وهو مسجون الآن بتهم أخرى.
الصورة العامة تقول أننا أمام أسرة مدمرة أو مفككة وأن هذا بدأ قبل أن تكون لأي فرد فيها أفكار داعشية. وان هذه الحملة الأمنية القاسية على الاسلاميين عموماً المتدينين عموماً لم تترك خياراً أمام الشاب في الحركة الاسلامية إلا الموت أو السجن فلابد أن نسبة منهم وليس المهم أن تكون نسبة كبيرة تتجه إلى العنف، في قتل رجال الشرطة والجيش، ثم يتطور الأمر لاستهداف الأبرياء في الكنائس باعتبار أن النصارى أعداء ومشاركين أصلاء في محاربة التيار الاسلامي!!. حتى وان كانت نسبة هؤلاء 1% من الحركة الاسلامية واذا تصورنا انها 2 مليون فيكون عددهم 20 ألف من طراز محمود شفيق وربنا يستر على هذا البلد. ان الـ 20 ألف لا يتواجدون فوراً أو معا ولكن بالتدريج، وهذا أمر لا قبل لأي جهة أمنية بمنعه أو مواجهته خاصة وأن من بينهم عناصر جديدة لا يوجد لديها ملفات سابقة عند الأمن، وحتى وإن كان فهل سيتم اعدام أو سجن 2 مليون حتى لا يخرج منهم الـ 20 ألف المفترضين الذين سيخبطون خبط عشوائي بل الفتاوي حاضرة على الانترنت وفي الكتب. إذن ما الحل؟!
أؤكد في البداية- كما هو ملاحظ من كتاباتي- خلافي العميق مع الاخوان المسلمين ومن والاهم من التنظيمات الاسلامية، وأيضا خلافي العميق مع تيار داعش (الذي أرفض أن يسمى التيار الجهادي لأن كل المسلمون مجاهدون) ودعوتي مع آخرين- بمنتهى التواضع هي- إلى تيار إسلامي ثالث وسط بين التطرفين.
لنفترض في البداية ان حركة 30 يوليو كانت على حق تماماً في كل ما صنعته أو على الأقل لقد أصبحت أمراً واقعاً مسيطراً يجب التعامل معه، فما الذي يتعين على سلطة 30 يونيو الموجودة في الحكم منذ 3 سنوات ونصف أن تعمل للقضاء على الارهاب وتحقيق قدراً معقولا من الاستقرار والأمن والأمان وإعادة الخلافات إلى المربع السلمي، وحيث لا يخلو مجتمع من الخلافات فالمجتمع الرشيد يسعى لوضعها في هذا المربع دوما. وسلطة 30 يونيو جوهرها قائم على المؤسسة العسكرية والكنيسة أما الباقون فقد خرجوا أو أخرجوا منها وبعضهم وضع في السجون. وسلطة 30 يونيو التتي بدأت في عهد منصور ثم السيسي لا تزال تحتفظ ببعض الشخصيات العامة المتناثرة ولكنها لا تحتفظ بأي حزب حقيقي: ليبرالي أو علماني أو قومي أو يساري. ومع ذلك تظل الحملة الأساسية على الحركة الاسلامية فهناك دعوة صريحة لإبادتها من الوجود. وهذا يجعل أي منتمي للاخوان أو أي تنظيم اسلامي آخر يفكر في حفر حفرة في الأرض والاختفاء بها أو دفن نفسه فيها أو تغيير معتقداته. بل أصبح من يعترض على أزمة السكر متهم بالاخوانية! وتهمة الاخوانية تعني الطرد من رحمة المجتمع. وتحول الاخوان أو الاسلاميين إلى هنود حمر إبادتهم حلال. وقد بدأت هذه الحملة حتى قبل أن يتورط الاخوان أو بعضهم في بعض أعمال العنف. ونذكر هذا التصريح الفريد للمشير السيسي خلال دعوته للحصول على تفويض، حيث قال (تفويض لمواجهة الارهاب "المحتمل")!!
لا أريد أن أدخل في التفاصيل (اخوان وغير اخوان) ولكن هناك حركة اسلامية أو حالة اسلامية كانت تحصل في الانتخابات الحرة على 55% إلى 65% وربما 75% (في مجلس الشورى) هذه الحالة مهما انكمشت الآن بحكم انفضاض الناس عنها نتيجة أخطائها أو نتيجة الحملات الاعلامية فإنها ستظل تتراوح بين 20 و 30% من الشعب وهؤلاء لا يمكن إغفالهم أو محوهم من الوجود. ولابد من إعطائهم نافذة للتنفس أو التعبير حتى لا ينفجروا أو لا ينفجر بعضهم. لقد أدركت سلطة 30 يونيو هذا المعنى عندما ظلت تترك الأحزاب الاسلامية بدون حل (عدا الحريية والعدالة)، ولكنه إدراك جزئي لأنها تركت هذه الأحزاب واعتقلت قياداتها ورؤسائها، وأغلقت صحفها ومنعتها من الظهور في الاعلام الرسمي والخاص!!
وصادرت أموال قياداتها، وهي ترسل كل يوم لهذه الأحزاب رسائل تهديد، نحن إذن أمام أحزاب محددة الاقامة.
هناك قانون طبيعي لا يقبل المناقشة: في أي مجتمع هناك نوافذ للتعبير السلمي مختلفة الأشكال، وكلما أغلقت السلطة نافذة تعبير فتحت ثغرة للتعبير العنيف.
وعندما يصبح الاعتقال في التظاهر يؤدي إلى السجن 10 سنوات أو أحيانا المؤبد (وهذه حالة بعض المفرج عنهم في قائمة الرئاسة الأولى الـ 82) فان التحول لقنبلة متفجرة مسألة واردة جداً عند شباب الاسلاميين خارج السجون أو الهاربين من الأحكام.
وبالمناسبة فان قوائم الرئاسة اذا استمرت بهذا المعدل الزمني والعددي فان المظلومين داخل السجون سيبقون حتى 2038، وبالتالي فان ايجابية هذه الفكرة ربما تؤدي إلى نتائج عكسية.
إن محو التيار الاسلامي في بلد كمصر هو ضرب من الجنون وهي فكرة حمقاء لابد من دفنها، ثم التفكير بعقل هادئ ووطني. لقد كان امن الدولة في عهد مبارك في منتهى الذكاء حين كان يترك مكتب الارشاد أو معظمه وخاصة المرشد العام خارج السجون ويعتقل آخرين فكان الكبار يضبطون الصغار. ولكن عندما اعتقلت كل مكتب الارشاد بل كل القيادات والكوادر الرئيسية للاخوان، ظهرت "حسم" واعتقد أن "حسم" انشقاق فعلي عن الاخوان وليست جناحاً مسلحاً لها. وأقول ذلك- مرة أخرى – من موقع الخلاف الجذري مع الاخوان، ولكن من موقع الحقيقة. ومعروف أن محمد كمال كان يخوض صراعاً انشقاقياً مع محمود عزت الوحيد الباقي (والذي يتركه الأمن عمداً) من تكوينة الكبار.
ولقد شعرت بمفارقة كبيرة وغريبة بين ما يقوله الاعلام عن كسر مصر وإسقاط مصر وأننا لن ننكسر بينما الحديث يجري عن شاب صغير عمره 22 سنة!! وتساءلت كيف لشاب صغير أن يكسر مصر وهو كان أصلاً مصرياً عاديا!! ولماذا أصبحت مصر "هفأ" هكذا حتى يهددها شاب صغير واحد. ثم قرأت نفس المعنى ليسري الجندي كاتب السيناريو المعروف يتساءل (من صنع من هذا الفتى البائس وأمثاله ليكون مجرما كارثيا) وعدد الأسباب ومن بينها الحالة السياسية والاعلامية فقال: (الاعلام هز الثقة في قدرتنا على التغيير بتمجيده لحكومة ضعيفة وبرلمان في اغلبه تابع لها خاصة مع غياب أي حياة حزبية، وبالتالي أي أحزاب حقيقية واختفاء الرأي الآخر في ظروف غير غامضة)!! (الأخبار 16/12/2016)
ترك المجال للعمل السلمي هو الضمانة الأساسية والجوهرية لمحاصرة الارهاب والقضاء عليه. وسأضرب الأمثلة من واقعنا:
(1) عندما جاء مبارك بعد اغتيال السادات وأحداث المنصة وأسيوط وفتح النوافذ والأبواب لم تشهد البلاد عمليات ارهابية من 1981 حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي.
(2) الحوار والمصالحة مع الجماعة الاسلامية هو أساس وقف موجة العنف في التسعينات، وليس سجن العقرب والعنف السلطوي. وذلك بالتوازي مع ترك منافذ تعبير للاسلاميين: حزب العمل+ جريدة الشعب التي لم تغلق إلا عام 2000+ السماح للاخوان بنزول الانتخابات والتسامح إلى حد كبير مع أنشطتهم+ ترك التيار السلفي.
(3) عندما تم تجميد حزب العمل وإغلاق جريدة الشعب، ثم ترك الاخوان يمارسون نشاطهم وينزلون انتخابات 2000+ 2005 والسماح لهم بجريدة آفاق عربية وأصدرت السلطات جرائد معارضة كالدستور وسمحت بصحافة مستقلة كالمصري اليوم، وهذا عوض غياب "الشعب". وبالتالي فان العقد الأخير من حكم مبارك 2000- 2011 لم يكن به أعمال عنف وإرهاب.
(4) خلال فترة الثورة 2011- 2013 لم يحدث عمل ارهابي واحد رغم ان الشرطة كانت مفككة وغير موجودة لمدة عام ثم ضعيفة لمدة عام آخر، لأن كل الناس – ومن بينهم الاسلاميين- كانوا يعبرون عن آرائهم بمنتهى الحرية بالاضافة لتأسيس الأحزاب بحرية.
(5) بدأ العنف والارهاب بعد أحداث 30 يونيو حيث تم تجريم كل أشكال الحركة الاسلامية وأغلقت جريدة الشعب مرة أخرى. وفيما عدا أحداث رد الفعل على رابعة لم تكن هناك أعمال عنف منظمة. ثم بدأت موجة استهداف محطات الكهرباء والمياه والقطارات باعتبارها لا تستهدف الأشخاص. ثم بدأت عمليات استهداف أشخاص محددة بالشرطة متهمة بعمليات تعذيب. ثم بدأ استهداف أي عنصر للشرطة. حتى وصلنا لمآساة استهداف المسيحيين العزل! (أستبعد سيناء من هذا العرض السريع لأنها تحتاج معالجة خاصة) وكلما تحدث أحد من اهل السلطة عن المصالحة وتطبيق مادة الدستور المتعلقة بالمصالحة والعدالة الانتقالية يتم شتمه وأهله وجدوده!!
وهناك مسألة فنية في العمل الارهابي..عندما يصعب على المنظمات الارهابية استهداف شخصيات عليا فانها لابد وأن تعمل ولذلك يتم الانزلاق للأهداف السهلة. والارهاب الذي يقولون انهم سيقضون عليه لا يحتاج أعداداً كبيرة، ولا يحتاج عملية كل يوم ولا يحتاج حتى هذا الرقم المشار إليه (20 ألف).
بالأمس التقيت بأحد السيدات فقالت لي: انها بعد حادث الكنيسة بدأت تشعر بالخوف وهي تركب المترو!!
نعود إلى الأمثلة الواقعية التي ذكرناها ونضيف إليها أن التضييق على الحركة الاسلامية حاليا لا مثيل له في عهدي السادات ومبارك ثم خلال أحداث الثورة 2011، وبالتالي فان العنف مرشح للاستمرار والتوحش حتى وان كان بأعداد قليلة وعلى فترات متباعدة نسبياً. أقول هذا لأن النظام قبل تفجير الهرم ثم الكنيسة كانت قد أسكرته نشوة النصر وظن أن الموضوع الارهابي قد انتهى، بل حتى في سيناء يقولون أن كل شئ تحت السيطرة!
لقد أضاع مبارك سنوات راحت فيها أرواح بالمئات حتى اقتنع بالحوار والمصالحة في التسعينيات. وكل مخلص لا يريد استمرار نزيف الدم من الشرطة والجيش والمدنيين والارهابيين (الذين لم يكونوا ارهابيين من سنتين)!!
الأمثلة من خارج البلد لا تعد ولا تحصى..
(1) بعد حرب أهلية استمرت 40 سنة وافقت حكومة كولومبيا على الصلح مع منظمة فارك.
(2) بعد عشرات السنين حدث ذلك بين انجلترا وثوار ايرلندا الكاثوليك...الخ
ولا أدعو لأي حوار مع ارهابيين، أدعو لفتح منافذ التعبير والحركة السلمية أمام الاسلاميين وغيرهم من المعارضين الوطنيين، وهذا هو الحل السحري والسريع للقضاء على العنف، بل يكاد يكون الحل الجوهري الوحيد.
ما تطرحه الحكومة الآن وبعض الاعلام كحلول أخرى يثير السخرية. الاسراع بالمحاكمات، فهل ستسرعون الآن بمحاكمة محمود شفيق، وهل يخاف الانتحاري من حبل المشنقة!!
الاسراع بالمشانق ورؤية عشرات معلقة على أعواد المشانق في يوم واحد، هذا سيسرع بمعدلات الارهاب وسيزيد عدد الارهابيين. ولا نقول أن القاتل- ان كان حيا- لا يُقتل. ولكن نحن أمام مشكلة سياسية بالأساس ولسنا أمام مجموعة من المجرمين الجنائيين. ولابد من معالجة الجذور لحصار الظاهرة. ولابد أن يكون واضحا في الذهن ان النظام لم يعدم شخصا واحداً في قضايا قتل المتظاهرين في أحداث ثورة 2011 وما بعدها، ولا في قتل المواطنين الأبرياء داخل وخارج الأقسام على يد أفراذ الشرطة. وبالتالي ستظل المقارنة قائمة في أذهان الشباب.
والبعض في الاعلام الرسمي يتحدث عن اصلاح التعليم والتعليم لم يتغير كثيرا منذ عشرات السنين وهو لم يؤدي إلى الارهاب في معظم السنوات السابقة كما ذكرنا. وهناك من يطالب بقتل الاخوان أينما ثقفوا خاصة في السجون بالمدافع الرشاشة. وهناك من يطالب بتغيير عقيدة المسلمين (بخصوص طبيعة المسيح) لضمان الوحدة الوطنية ولإرضاء عقيدة 6% من السكان (المسيحيين) وهناك حملة على شيخ الأزهر لتكفير الارهابيين، رغم أن موقف شيخ الأزهر هو من صحيح الاسلام. تكفير الارهابيين يبرر لهم تكفير الحكام والمسيحيين (واحدة بواحدة) وساعتها لن تستطيع أن تصفهم بالتكفيريين لأنك أصبحت مثلهم. وهناك من يدعو لإلغاء البخاري ومسلم والمذاهب الأربعة وتعطيل بعض آيات القرآن الكريم. وبغض النظر عن المسألة العقدية، فان كل هذه الحلول هي جرادل بنزين لاشعال البلاد والتمهيد لحرب أهلية حقيقية لم تبدأ بعد!
وأقول لسلطة 30 يونيو.. أنتم تسيطرون على البلاد الآن فلماذا لا تخففون القبضة الحديدية، فهذا أفضل لكم وللبلاد.
لابد من دفن فكرة إبادة التيار الاسلامي، والاسراع بالافراج عن المعتقلين بدون أي اتهام بالعنف. ثم إجراء حوار حقيقي مع عقلاء التيار الاسلامي وممثلي مختلف التيارات الوطنية. وان كنتم تعزفون عن الحوار، فيمكن السماح بفتح منافذ التعبير والتنظيم والحركة لكل هذه القوى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.