هذا يوم مختلف عما قبله وما بعده، يوم فاصل في تاريخ الثورة المصرية، والوطنية المصرية والإنسانية المصرية.
يوم تقول فيه لمن اعتبروك وعاءً لألقاء الأكاذيب والأوهام: أنا إنسان. وتقول فيه لمن استخدموك أداة لضخ الكراهية وإشاعة العنصرية وتكريس القبح وتقديس الرداءة: تقول أنا إنسان.
هو يوم للكرامة الوطنية والكرامة الإنسانية معاً، تقف فيه في وجه الذين يعبثون بأرضك، ويحتقرون رأيك، تستعيد نفسك مواطناً صاحب أرض، لا دمية للعرض، تستعملها السلطة، أو تسلط عليها مجموعات من مروجي "الشوفينية الثورية"، تدّعي احتكار الحقيقة المطلقة، والثورية المطلقة، والوطنية المطلقة.
انزل ضد باعة الجزر، بثمن بخس لقاء البقاء في السلطة، ولا تستمع لصناع الجزر الذين يقتاتون على تفتيت المشاعر وبعثرة الغضب، وتحويل الجموع إلى جزر منعزلة، كلٌّ يدعي أن مساحته الأقدس، وأن موضع قدميه هو الفسطاط.
هذا يوم آخر، لكي يعتذر فيه المصريون لثورتهم وميدانهم وإنسانيتهم، يشبه أياماً كثيرة من أيام 2011 وما بعدها، حين كان المصريون يعودون إلى الميدان، بعد انشغالهم عنه بمعارك بينية، صنعها الذين يفرّطون في الأرض والكرامة الوطنية الآن. أقول لك، كما قلت في تلك الجمعة المشهودة في التاسع والعشرين من يوليو/ تموز 2011: أيها الداخلون إلى ميدان التحرير لأول مرة، أو العائدون إليه بعد غياب وانقطاع، تذكّروا ما يلي: هذا المكان لا يمتلكه فصيل بعينه، ولا يستطيع مهما حاول، لأن الأيام أثبتت أن التحرير أكبر من الجميع، وأوسع من حدود أي حالم بالزعامة أو الانفراد به، بل وأقوى من أي كائن من كان يتصور أنه قادر أن يفرض سطوته وسلطته عليه.
تذكّروا جيداً أن هذا الميدان تعرّض لقصف عنيف من مختلف الجبهات، طوال الفترة الماضية، وتلقى ضربات شديدة القسوة، من خارجه ومن داخله. وعلى الرغم من ذلك، بقي صامداً وسيبقى عنواناً وحيداً للثورة، وقبلة وحيدة للبحث عن التغيير والتطهير.
إن العودة إلى التحرير بهذه الكثافة المتوقعة، اليوم، تعني، في أحد جوانبها، أن الجميع استوعبوا درساً مهماً للغاية، وهو أن أحداً لا يستطيع العبث بالتاريخ والجغرافيا، مهما حاول، وأن القيمة الرمزية والدلالة الروحية للميدان لدى المصريين لم تهتز، ولم تتأثر بكل تلك الألاعيب التي حاولت محاكاة الثورة، أو اختراع عبواتٍ مقلدة لها، في "روكسي" أو غيره، طوال الفترة الماضية. كما تحمل هذه العودة الكثيفة، ضمن ما تحمل، اعتذاراً ضمنياً لميدان التحرير عن كل ما طاوله منشتائم وسخائم وافتراءات وأكاذيب ومحاولات تدنيسه وتلويث تربته النظيفة بالبذور السامة، والتصرفات المسرطنة. ويخطئ من يتصوّر أنه قادر على امتلاك الميدان، أو السيطرة عليه، مهما بلغ حجمه وعدده، وعلا صوته، لأن الأيام أثبتت أن هناك حقيقة جيوبولوتيكية مؤكدة، اسمها "عبقرية الميدان"، تشبه كثيراً " عبقرية المكان" التي تحدث عنها الراحل العظيم جمال حمدان، في سفره الكبير "شخصية مصر".
ومن ثم، فإن المأمول اليوم من جميع الأطراف الذاهبة إلى التحرير أن تدرك أن هذا الميدان الكبير الواسع الفسيح العميق، المتجذر في وجدان المصريين، ليس مجرد مساحة خلاء أو قطعة أرض فضاء، يستطيع تملكها، أو وضع يده عليها أحد، فالميدان نموذج مصغر لمصر، وقد قال لنا التاريخ إن مصر كانت دائماً أكبر من كل أحلام الذين تصوّروا يوماً أنه يمكنهم اختطافها أو حبسها داخل لافتة.