06/08/2015
التفريعة السابعة.. بين الوهم والحقيقة والنسيان
بقلم: حاتم عزام
سخّرت الدولة المصرية كل إمكاناتها المؤسسية وحشدت ترسانتها الإعلامية، لافتتاح مشروع تفريعة قناة السويس. ليس فقط وسائل إعلام الدولة، بل تبارت في ذلك أيضاً القنوات الفضائية والصحف المملوكة لرجال أعمال دولة السيسي - مبارك، بعد تبرئة معظمهم من قضايا الفساد والتهرب الضريبي التي تقدر بمليارات الجنيهات، بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، بعد أن بدأ التحقيق معهم فيها، وإدانة بعضهم، بعيد ثورة 25 يناير 2011.
نجم الاحتفال المارشال، رئيس المخابرات العسكرية السابق الذي عينه رئيس مدني انتخب ديموقراطياً لأول مرة في تاريخ مصر، وزيراً للدفاع، فاختطفه وانقلب عليه، وتسير خطته في اتجاه إعدامه شنقاً على قدم وساق، بعد أن قتل الآلاف واعتقل عشرات الآلاف، ليجلس هو على كرسي السلطة.
مرتدياً نظارته السوداء، وملوحاً لكاميرات القنوات الإعلامية المحلقة في سماء مصر على متن المروحيات العسكرية، ورافعاً يديه لمؤيديه الذين يتم شحنهم قبله في طرود جوية و برية لمواقع استقباله، في وقت تحلق فيه طائرات الـ"F16" الأمريكية المقاتلة والتي تسلم دفعة منها من حلفائه قبل أيام.. سيظهر وحده -كما أذاعت أذرعه الإعلامية- على يخت المحروسة الذي سيستقله ليصل إلى منصة التتويج، حيث سيعطي إشارة البدء، ليفتتح بعدها المارشال المشروع، في حفل مهيب تشرف عليه شركة فرنسية كبيرة أعدت فيلماً تسجيلياً تصور فيه "لمساته المعجزة"، التي أنجزت ما لم ينجزه غيره، منذ عهد الخديوي إسماعيل، بعدها توزع بعض الجنيهات الذهبية على الحضور عليها شعارات المشروع، وربما يكون قد تم صك اسمه أو صورته عليها.
هذه هي ملامح المشهد الإعلامي الكبير، الذي ريما يكون المشهد الإعلامي الأكثر كلفة في تاريخ الدولة المصرية في العصر الحديث. فقد تكلفت خزانة الدولة المصرية أكثر من 100 مليار جنيه، هي محصلة قيمة التمويل الذي جمعته بإصدار سندات اقتراض بمقدار 60 مليار جنيه من الشعب المصري، بفائدة مغرية، قدرها 12%، تفوق معدل الفائدة البنكية في مصر، لمدة خمس سنوات، كل ذلك حتى نصل إلى هذا المشهد. ولم لا، فإن "مصر بتفرح".
هكذا تفكر السلطات الديكتاتورية، والأنظمة الشمولية، عبر التاريخ، خصوصاً إن كانت عسكرية، أو مصابة بهوس الزعامة الذي لا يستند إلى اختيار شعبي حر، أو إلي قدرات تمكنها من الإنجاز الفعلي. حينها، يكون السعي وراء إنجازات وهمية، وإن كانت باهظة الكلفه، لإشباع غريزة الزعامة الزائفة، هو الهدف، ليفيق الجميع بعد سنوات ليجد نفسه في مستنقع الفشل الاقتصادي، ووحل الديون المستقبلية، بعد سقوط هذه الأنظمة ورحيلها، وما مشهد مبارك عنا ببعيد وهو يرتدي نظارته السوداء ملوحاً بيديه للجماهير معلناً افتتاح مشروع الدلتا المصرية الجديدة «توشكى» التي لم تر مصر عائداً لها، ولا رأت دلتا جديدة من الأساس، بل تزايدت مديونية وعجز الموازنة العامة للدولة المصرية بعد الإعلان عنها وبشكل مطرد.
وفي خضم التضليل الإعلامي، والدجل السياسي، لصناعة الزعامة الفارغة، فإن الاعتقال والتخوين والتشويه لأي صوت يعارض هذا السفه والخواء، يصبح واجباً وطنياً يتصدر له أشاوس الأذرع الإعلامية باستبسال مفرط، هذا إن كانت هذه الأصوات ما زالت حية لم تقتل أو تحرق أو تصفَّ جسديا أو تعدم، أو حرة لم تعتقل بعد.
أما العائد الاقتصادي، وفي غياب أي دراسة جدوى معروضة للحوار المجتمعي، وفي غياب الرقابة المؤسسية للبرلمان المنتخب الذي تم حله بقرار عسكري لقائد الانقلاب، يصبح الغموض والضبابية مع سبق الإصرار والترصد هما سيد الموقف. وسط هذا الضجيج، الذي لم نري له طحيناً بعد، تروج سلطة الأمر الواقع، أننا بصدد مشروع «قناة سويس جديدة» ستزداد على أثره عائدات قناة السويس بنسبة 250% بحلول العام2023 لتحقق 13.3 مليار جنيه بدلاً من عائدها الحالي وهو 5.5مليارات، فمصر باتت تمتلك «قناتين»!، وليست واحدة، قناة الخديوي إسماعيل وقناة المارشال السيسي. ويرجع صانعو الأخبار والأرقام هذه الزيادة لـ « القناة الجديدة »، وما ستضيفه للحركة الملاحية، من تقليل زمن الانتظار للسفن وبالتالي مضاعفة عدد السفن المارة و تضاعف عائدات قناة السويسي!
خطاب رسمي مليء بالتناقضات والمغالطات من نواح عدة. فهل تفتتح "قناة سويس جديدة" بهدف «تقليل زمن الانتظار» الذي تنتظره بعض السفن عندما تعبر "القناة القديمة" وقت ذروة الحركة فيها، في بعض الأحيان؟ وهل يصح أن يطلق اسم قناة سويس جديدة على المشروع القائم على حفر 35 كيلومترا موازية للقناة لسهولة التوصيل من نقطة إلى أخرى؟
حقيقة الأمر أن تقليل زمن انتظار السفن يتحقق بحفر «تفريعة» جديدة تسمح بالازدواج المروري في مناطق بعينها في القناة. إذاً، نحن بصدد مشروع «تفريعة» جديدة لقناة السويس الوحيدة التي عرفتها مصر ويعرفها العالم. تفريعة جديدة "الدفرسوار إلى البلاح" بطول 35 كيلومترا. بالإضافة إلى أعمال توسيع وتعميق المجرى الملاحي بطول 37 كيلومترا أخرى. وبالنظر إلى تاريخ تطوير قناة السويس، نجد أنه منذ اقتتاحها في العام 1869, تم تطوير القناة، والتي بلغ طولها 193 كيلومترا بحساب منافذ الدخول الشمالي والجنوبي، بحفر ست تفريعات، وهي: تفريعة البلاح بطول 8.6 كيلومترات، وتفريعة البحيرات المرة بطول 11.8 كيلومترا، وتفريعة كبريت بطول 7.0 كيلومترات، وتفريعة بورسعيد بطول 40.1 كيلومترا (أكبر من مشروع التفريعة الحالي)، وتفريعة التمساح بطول 4.3 كيلومترات، وتفريعة الدفرسوار بطول 8.4 كيلومترات. إذاً نحن أمام مشروع تفريعة سابعة للقناة، بعد المشاريع الستة السابقة، وليس أطولها. وقد مرت هذه التفريعات الست السابقة، دون هذا الضجيج الإعلامي الذي يصل إلي حد التضليل، والدجل السياسي الذي يروج لقناة سويس جديدة، ولم نسمع حينها عن قناة سويس رابعة أو خامسة أو سادسة!!
أما المغالطة الأكبر والأهم، فتتمثل في أن حفر التفريعة الجديدة لا يرتبط ارتباطاً حقيقياً مباشراً، الآن وفي المستقبل المنظور، بزيادة دخل القناة بمعدل 250%. ومن غير الحقيقي، و ليس ثمة دليل، علي أن مشروع التفريعة السابعة سيرتفع بدخل القناة من من خمسة مليارات جنيه إلى ثلاثة عشر مليار جنيه. فقناة السويس، وبحسب الأرقام المعلنة، تعمل في المتوسط ومنذ العام 2009 وحتى العام 2014، بنسبة 60% من طاقتها اليومية القصوى. أي إننا لسنا إزاء أزمة تكدس وانتظار طويل للسفن يمنع زيادة العائد من القناة، وبالتالي فإن التفريعة السابعة ستحل هذه المعضلة، بل إن السبب الرئيس الذي يحول دون زيادة عدد السفن المارة ومضاعفة الدخل والعائد من القناة، هو تباطؤ معدلات حركة التجارة العالمية، او ازديادها بمعدلات ضعيفة بعد الازمة المالية العالمية ، بالإضافة إلى سبب آخر بدأ يلوح في الأفق وهو أن شركات الملاحة العالمية شرعت في استخدام أنواع جديدة من السفن العملاقة التي لا يسمح العمق الحالي للقناة بمرورها. فعلى سبيل المثال، هبط معدل إشغال القناة من 75% من طاقتها القصوى قبل الأزمة المالية العالمية في العام المالي 2007-2008، إلى 58% من طاقتها القصوى بعدها.
إذاً، ليس ثمة علاقة -في هذا الوضع الحالي للقناة، ولا يوجد يقين في وجودها في المستقبل القريب المنظور- بين تقليل زمن الانتظار وتزايد عوائد القناة بمعدل 250% من الدخل الحالي. وإن زيادة معدلات التجارة العالمية هي المسؤول الأول، بالاساس، عن مضاعفة حركة الملاحة. ويؤكد ذلك تقرير شركة «كابيتال إيكونوميكس» للدراسات والبحوث الاقتصادية بلندن، الصادر يوم الاثنين الماضي 3 أغسطس 2015، والذي رأى أن تقييم الأرقام الذي قدرته السلطات المصرية في هذا الإطار «ليس له أساس وغير واقعي».
لن يقع الضرر عند عدم تحقيق عائد اقتصادي مجز في السنوات الخمس القادمة لمشروع التفريعة السابعة على مقرضي الدولة، أصحاب شهادات القناة، وفقط. فإن هؤلاء، وإن كانوا سيستردون ودائعهم بفوائدها السخية المعلنة بالفعل، إلا أن بعضهم قد يدفع فعلياً أكثر من هذا العائد، خصوصاً إن كان من صغار المقرضين أصحاب العدد القليل من الشهادات، كفارق في أسعار السلع والخدمات التي ستتضخم قيمتها بمعدل يتناسب مع الزيادة في عجز الدولة الآخذ في الازدياد بشكل مطرد، فضلا عن الانخفاض المتوقع في قيمة الجنيه أمام سعر صرف الدولار في ظل الأداء الاقتصادي المتردي لسلطة السيسي- مبارك.
في أحسن الأحوال فإن عشرات الآلاف من أصحاب شهادات الإيداع لن يقع عليهم ضرر مباشر، وقد يحقق بعضهم عائداً اقتصاديا مباشرا، لكن هذا سيكون على حساب ازدياد مديونية ملايين المصريين، بمن فيهم أصحاب شهادات القناة، المتمثلة في ارتفاع مديونية وعجز الموازنة العامة للدولة المسؤولة عن توفير السلع والخدمات العامة لهم، وبالتالي سيثقل كاهلهم بمزيد من الديون المستقبلية وسيواجهون المزيد من التضخم في أسعار السلع والخدمات
ويبقى الرابح الأكبر الوحيد، بعد الصناعة الإعلامية للزعامة الزائفة، هو ما أحب أن أطلق عليه «شركة الانقلاب العسكري بالمنطقة الحرة»، الخالصة من الضرائب، المؤسسة العسكرية المصرية وشركات دولتي الإمارات والسعودية. فالهيئة الهندسية للقوات المسلحة (معفاة من تسديد الضرائب على الأرباح لخزانة الدولة) شاركت الشركة الاستشارية السعودية التي تم ترسية التعاقد الاستشاري عليها، دار الهندسة، في تنفيذ أعمال الاستشارات. كما شاركت التحالف الإماراتي الهولندي البلجيكي، الذي يقود الأعمال التنفيذية في أعمال الحفر. بالإضافة إلى الشركة الإماراتية، الجرافات البحرية بأبي ظبي، والتي تقود تحالفا يشملها هي وشركتان هولنديتان وشركة بلجيكية، لتنفيذ المشروع. هؤلاء الشركاء هم الرابح الأكبر، ولن يسدد أحد منهم حتى ضرائب لخزانة الدولة على أرباحهم. وسيتبقى فتات الأرباح لبعض الشركات المصرية المتوسطة والصغيرة، والتي ستنفذ بعض الأعمال من الباطن لهؤلاء الكبار.
لن ينسي المصريين أكبر مذبحة و جريمة ضد الإنسانية في تاريخ مصر ، و التي قام بها وزير الدفاع المنقلب، و التي قتل فيها الآف الاراوح بدم بارد في الرابع عشر من أغسطس من العام 2013، و التي ستحل ذكراها بعد أسبوع من اليوم الذي دعي فيه القاتل مصر أن تَفْرَح، إستكمالاً لمسيرة شقه للمجتمع المصري، و امعاناً في إستفزاز مشاعر أسر ضحاياه. لن تفرح مصر دون عدالة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق