د. جلال أمين يكتب: هذا النبيل في ماركسيته وإسلامه
وفاءً منا لفارس الكلمة "عادل حسين" فى الذكري 83 لميلاده
منذ 7 ساعة
عدد القراءات: 832
في الذكري 83 لميلاد المفكر الإسلامي والمجاهد "عادل حسين" رئيس تحرير جريدة "الشعب" وأمين عام حزب العمل (الاستقلال حاليا) السابق نعيد نشر مقال فضيلة الدكتور جلال أمين والذي نشره عقب رحيل الأستاذ عادل حسين في 8 إبريل 2001. على صفحات جريدة العربي.
نص المقال
ينتمي الفقيد العزيز عادل حسين إلى أسرة مجاهدة، نادرة المثال في الصلابة والجد والاستعداد للتضحية.
هكذا كان أحمد حسين وحلمي مراد، وهكذا لا يزال مجدي أحمد حسين.
لكن الجهاد الذي مارسه كل من هؤلاء الرجال العظام كان يتسم، فضلاً عن الصلابة والجلد والاستعداد الكامل للتضحية، بسمتين أخرتين جليلتين، هما ما أريد أن أفيض قليلاً في الحديث عنه، فيما يتعلق بعادل حسين بالذات.
السمة الأولى: هي اقتران جهاد العمل بجهاد العلم:
إن عادل حسين لم يكتف، مثلما اكتفى الكثيرون من المجاهدين، بالعمل السياسي المباشر، من تنظيم الاجتماعات والاشتراك في المظاهرات وتوزيع المنشورات، إلى إلقاء الخطب وكتابة المقالات النارية بالصُحُف، بل كثيرًا ما جلس أيضًا لتأليف الكُتُب.
والذي يقرأ كتاب عادل حسين الذي نشر منذ عشرين عامًا بالضبط:
(الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية 74 – 1979، دار الكلمة للنشر، دار الوحدة، بيروت، 1981) يجد في هذا الكتاب عدة أشياء مدهشة، فهو أولاً كتاب في الاقتصاد، مع أن عادل حسين خريج كلية العلوم، ولكن عادل حسين حصل من المعرفة بعلم الاقتصاد ما أهله لكتابة كتاب يفخر أي اقتصادي مصري تخصص بأن ينسب إليه، رجع فيه إلى كل المراجع العربية والأجنبية التي كان يتعين الرجوع إليها، فضلاً عن مضابط جلسات مجلس الشعب، يومًا بيوم، لتوثيق التحول في السياسة الاقتصادية المصرية من الاستقلال إلى التبعية خلال السبعينيات، إذن فقد علم عادل نفسه الاقتصاد وبرع فيه، عندما اكتشف أن فهم هذا العلم ضروري لدعم جهاده والدفاع عن قضيته.
السمة الثانية لجهاد عادل حسين: إن القضية التي ملكت عليه نفسه، واستولت على كل اهتمامه، واستمرت محورًا لجهاد من البداية إلى النهاية، كانت هي قضية الاستقلال.
وأعتقد أن توضيح هذه النقطة مهم وضروري لفهم ما طرأ من تحولات على فكر عادل حسين، وعلى مصادر إلهامه.
فكلنا يعرف أن عادل حسين بدأ ماركسيًا وانتهى إسلاميًا. ولكن من المهم في رأيي أن ندرك أن لكل من الماركسية والإسلام مداخل متعددة، وليس كل من رفع لواء الماركسية،
أو لواء الإسلام تحكمه نفس البواعث، أو تحركه نفس المشاعر التي تحرك غيره.
إن من الممكن للمرء أن ينضوي تحت لواء الحركة الماركسية مدفوعًا في الأساس بحبه للعدل الاجتماعي، وكراهية الاستغلال الاقتصادي، وللتمييز الطبقي، ولكن من الممكن أيضًا، وهذه هي حالة عادل حسين، أن يكون انضواؤه تحت لواء الماركسية مدفوعًا بحبه للاستقلال وكراهيته للاستعمار.
لقد رأينا مثلاً من الماركسيين الأوائل في مصر، من كان على استعداد للتسليم لليهود بدولة في فلسطين، بشرط أن تكون دولة اشتراكية، كما كان من بين الماركسيين المخلصين في أوروبا الشرقية، من كان على استعداد للخضوع لسيطرة الاتحاد السوفييتي من شدة كراهيتهم للرأسمالية.
كان عادل حسين على العكس، ينتمي إلى ذلك الفريق من الماركسيين، والاشتراكيين الذين يقدمون قضية الاستقلال الوطني على قضية الاستغلال الاقتصادي.
فقد ظهر بوضوح تام أن كراهية عادل حسين للانفتاح ترجع في الأساس إلى ما يمثله هذا الانفتاح من تهديد للاستقلال، أكثر مما يمثله من تهديد للعدالة في توزيع الدخل.
كانت أكثر الأشياء إثارة لبغض عادل حسين، من بين آثار الانفتاح الاقتصادي في مصر، ليس هو تفاقم الاختلال في توزيع الدخل والثروة، بل هو ما جلبه الانفتاح من تسلط الأجنبي على المصريين، وفرض إرادة الأجنبي على واضعي السياسة الاقتصادية، وبداية عصر تكرر فيه ما حدث في مصر قبل مائة عام بالضبط، عندما أدى تورط مصر في الديون إلى فقدان مصر لإرادتها السياسية، وقد راع عادل حسين أن يرى أن ما حدث في سبعينيات القرن التاسع عشر، يتكرر تكرارًا مدهشًا في سبعينيات القرن العشرين.
وقد مضى عادل حسين النصف الثاني من السبعينيات بأكمله، يكتب أكثر من ألف صفحة ليدلل على الحقيقة الآتية ويدعمها بالوثائق.
وهي أن تحول مصر خطوة بخطوة من سياسة الاستقلال الاقتصادي إلى الانفتاح فيما بين الستينيات والسبعينيات، لم يكن اختيارًا مصريًا، بل فرض على مصر بالقوة، وباستخدام مختلف وسائل الضغط من قوى خارجية.
ولكن انشغال عادل حسين بقضية الانفتاح الاقتصادي وأثره على الاستقلال الوطني، جره شيئًا فشيئًا إلى توسيع معنى هذا الاستقلال، فلم يعد في نظره مجرد الاستقلال الاقتصادي،
أو الاستقلال السياسي، بل اتسع ليشمل الاستقلال الحضاري والثقافي.
وهكذا كان الانتقال الفكري من الماركسية إلى الإسلام، في نظر عادل حسين، أبسط بكثير مما يظن الكثيرون.
لقد أراد عادل حسين أن يفهم الاستقلال بمعنى أوسع من المعنى الذي يؤكد عليه الماركسيون، فالوطن لا يستقل فقط بطرد الجيوش الأجنبية، ولا يستقل فقط بتأميم المشروعات المملوكة للأجانب، أو بنقل ملكية المصريين، وإنما لا يستقل الوطن إلا بصيانة تقاليد الأمة وثقافتها، والإسلام هو بالطبع مصدر أساسي من مصادر هذه التقاليد والثقافة.
بدأ هذا التحول يظهر بوضوح في بعض أجزاء كتابه "الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية"، فهو ينتقد بصراحة "غالبية مفكري اليسار في الغرب" لأنها "تغفل أهمية الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي في إحداث تنمية جادة، ولكنها لا تتخيل أبدًا أن الاستقلال الحضاري ممكن أيضًا أو مطلوب" (الجزء الأول، ص 313).
كما ينتقد بعض مفكري أمريكا اللاتينية من أصحاب نظرية التبعية، مثل أنديه جوندار فرانك، لأنهم "لا يتصورون أن هناك هدفًا حضاريًا غير الوصول إلى صورة من صور المجتمع الغربي"، (الجزء الأول، ص 375).
حتى هذه النقطة لا أعتقد أن كثيرين يمكن أن يختلفوا مع عادل حسين، أو لا يمكن لي على الأقل أن اختلف معه، وقد كان بيننا بالفعل في النصف الأول من الثمانينيات اقتراب فكري حميم دعا البعض إلى تصنيفنا في مجموعة فكرية واحدة سميت أحيانًا "بالتراثيين الجدد".
ولكن عادل حسين ذهب إلى أبعد من هذا مدفوعًا بقوة حماسه، وتصميمه على تحويل الفكر الذي يؤمن به إلى نتائج عملية.
كان قد تعلم من الماركسية ذلك الدرس الصحيح في رأيي من أنه لا يمكن أن يقدر لأي فكرة أن تنجح على أرض الواقع، إلا إذا حملتها شرائح أو طبقات اجتماعية تجد مصلحتها في تحقيق هذه الفكرة وتطبيقها، إذا لم يحدث هذا فستظل الفكرة في الرأس، أو في الكُتُب، ومهما كانت درجة صحتها، أو نبل دوافعها؛ فلن يجديها هذا شيئًا إذا حرمت من هذا الدعم الجماهيري.
كان عادل حسين على صواب في هذا، وربما كان على صواب أيضًا في اعتقاده بأن استجابة الجماهير في مصر لأي حركة فكرية أو سياسية، على الأقل في هذا العصر، لا يمكن أن تتحقق إلا إذا استندت هذه الحركة بصورة أو أخرى إلى الدين.
قد يكون كل هذا صحيحًا، ولكن كان هناك في رأيي خطر لا أظن أن عادل حسين قدره حق قدره، ويتمثل في الحقيقية الآتية: ليس من السهل أبدًا، على مفكر سياسي أو اجتماعي، حتى ولو كان له ذكاء عادل حسين، وقوة عزيمته، وقدرته على الإقناع، أن يقود الجماهير المتدينة إلى تبني مفهومه هو الخاص جدًا والمتقدم جدًا، للدين، بل إن هناك خطرًا حقيقيًا أن يخضع القائد نفسه، شيئًا فشيئًا، لتفسيرات أقل تقدمًا بكثير وأقل عقلانية، وذلك تحت تأثير هذه الجماهير، ومن ثم تسرع في تقديم تنازل بعد آخر يبعد به شيئًا فشيئًا عن تفسيره الخاص الذي كان يطمح إلى إقناع الناس به.
قد يذهب البعض إلى أن عادل حسين قد أصابه هذا الخطر، وأنه قدم بالفعل من هذه التنازلات لجمهوره ومحبيه، أكثر مما يجب، على أمل أن يحقق نجاحًا في بعض المجالات الأكثر أهمية، من مجالات الاستقلال الوطني، وأن انخراطه في العمل السياسي اليومي منعه من أن يرى بوضوح جسامة هذا الخطر الذي كان يتعرض له.
وأنا من جانبي أتفق مع هذا التشخيص لبعض مواقف عادل حسين السياسية الأخيرة؛ مما يذكرنا بقصة جورج أوريل الشهيرة التي أسماها (مقتل الفيل) والتي وصف فيها حال ضابط شرطة شجاع (ربما كان هو أوريل نفسه) كلف بالذهاب إلى منطقة خرج فيها فيل ضخم مجنون يعيث في البلد فسادًا، في إحدى الدول الآسيوية، ويهدد حياة الناس بالخطر، وأُعطي حرية التصرف في أن يقتله، أو يكتفي بصيده وشل حركته.
ولكن الضابط أثناء رحلته، مر بجماهير غفيرة كانت قد سمعت بقصة الفيل فساروا وراء الضابط آملين أن يروا مشهدًا مثيرًا، وكانوا يتحفزون لرؤية الفيل مقتولاً، ولا يكتفون بمجرد تهدئته وشل حركته، وأثناء هذه المسيرة ظل عدد الجماهير السائرة وراء الضابط شيئًا فشيئًا حتى أصبحوا آلافا مؤلفة، كلهم يريدون أن يروا الفيل قتيلاً، فإذا بالضابط يعجز عن مقاومة نفوذهم وقوة تأثيرهم، ولو بسبب العدد وحده، وإذا به يطلق الرصاص على الفيل فيقتله، دون أن تكون هناك حاجة في الواقع للذهاب إلى هذا المدى.
ومع كل هذا فإن من المؤكد لدى الكثيرين من أصدقاء عادل حسين ومحبيه، وممن كانوا يعرفون شخصيته وطباعه، أن عادل حسين لم يفقد في يوم من الأيام إخلاصه لقضية نبيلة، هي قضية الاستقلال الوطني، سواء في مرحلة الماركسية، أو مرحلة الإسلامية، وسواء كان هذا الاستقلال الذي ينزع إليه سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو حضاريًا، لقد كان مدخل عادل حسين إلى الإسلام مدخلاً نبيلاً، كما كان مدخله إلى الماركسية مدخلاً نبيلاً أيضًا، وسوف يكافئه الله بمقدار نبل مقاصده.
هكذا كان أحمد حسين وحلمي مراد، وهكذا لا يزال مجدي أحمد حسين.
لكن الجهاد الذي مارسه كل من هؤلاء الرجال العظام كان يتسم، فضلاً عن الصلابة والجلد والاستعداد الكامل للتضحية، بسمتين أخرتين جليلتين، هما ما أريد أن أفيض قليلاً في الحديث عنه، فيما يتعلق بعادل حسين بالذات.
السمة الأولى: هي اقتران جهاد العمل بجهاد العلم:
إن عادل حسين لم يكتف، مثلما اكتفى الكثيرون من المجاهدين، بالعمل السياسي المباشر، من تنظيم الاجتماعات والاشتراك في المظاهرات وتوزيع المنشورات، إلى إلقاء الخطب وكتابة المقالات النارية بالصُحُف، بل كثيرًا ما جلس أيضًا لتأليف الكُتُب.
والذي يقرأ كتاب عادل حسين الذي نشر منذ عشرين عامًا بالضبط:
(الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية 74 – 1979، دار الكلمة للنشر، دار الوحدة، بيروت، 1981) يجد في هذا الكتاب عدة أشياء مدهشة، فهو أولاً كتاب في الاقتصاد، مع أن عادل حسين خريج كلية العلوم، ولكن عادل حسين حصل من المعرفة بعلم الاقتصاد ما أهله لكتابة كتاب يفخر أي اقتصادي مصري تخصص بأن ينسب إليه، رجع فيه إلى كل المراجع العربية والأجنبية التي كان يتعين الرجوع إليها، فضلاً عن مضابط جلسات مجلس الشعب، يومًا بيوم، لتوثيق التحول في السياسة الاقتصادية المصرية من الاستقلال إلى التبعية خلال السبعينيات، إذن فقد علم عادل نفسه الاقتصاد وبرع فيه، عندما اكتشف أن فهم هذا العلم ضروري لدعم جهاده والدفاع عن قضيته.
السمة الثانية لجهاد عادل حسين: إن القضية التي ملكت عليه نفسه، واستولت على كل اهتمامه، واستمرت محورًا لجهاد من البداية إلى النهاية، كانت هي قضية الاستقلال.
وأعتقد أن توضيح هذه النقطة مهم وضروري لفهم ما طرأ من تحولات على فكر عادل حسين، وعلى مصادر إلهامه.
فكلنا يعرف أن عادل حسين بدأ ماركسيًا وانتهى إسلاميًا. ولكن من المهم في رأيي أن ندرك أن لكل من الماركسية والإسلام مداخل متعددة، وليس كل من رفع لواء الماركسية،
أو لواء الإسلام تحكمه نفس البواعث، أو تحركه نفس المشاعر التي تحرك غيره.
إن من الممكن للمرء أن ينضوي تحت لواء الحركة الماركسية مدفوعًا في الأساس بحبه للعدل الاجتماعي، وكراهية الاستغلال الاقتصادي، وللتمييز الطبقي، ولكن من الممكن أيضًا، وهذه هي حالة عادل حسين، أن يكون انضواؤه تحت لواء الماركسية مدفوعًا بحبه للاستقلال وكراهيته للاستعمار.
لقد رأينا مثلاً من الماركسيين الأوائل في مصر، من كان على استعداد للتسليم لليهود بدولة في فلسطين، بشرط أن تكون دولة اشتراكية، كما كان من بين الماركسيين المخلصين في أوروبا الشرقية، من كان على استعداد للخضوع لسيطرة الاتحاد السوفييتي من شدة كراهيتهم للرأسمالية.
كان عادل حسين على العكس، ينتمي إلى ذلك الفريق من الماركسيين، والاشتراكيين الذين يقدمون قضية الاستقلال الوطني على قضية الاستغلال الاقتصادي.
فقد ظهر بوضوح تام أن كراهية عادل حسين للانفتاح ترجع في الأساس إلى ما يمثله هذا الانفتاح من تهديد للاستقلال، أكثر مما يمثله من تهديد للعدالة في توزيع الدخل.
كانت أكثر الأشياء إثارة لبغض عادل حسين، من بين آثار الانفتاح الاقتصادي في مصر، ليس هو تفاقم الاختلال في توزيع الدخل والثروة، بل هو ما جلبه الانفتاح من تسلط الأجنبي على المصريين، وفرض إرادة الأجنبي على واضعي السياسة الاقتصادية، وبداية عصر تكرر فيه ما حدث في مصر قبل مائة عام بالضبط، عندما أدى تورط مصر في الديون إلى فقدان مصر لإرادتها السياسية، وقد راع عادل حسين أن يرى أن ما حدث في سبعينيات القرن التاسع عشر، يتكرر تكرارًا مدهشًا في سبعينيات القرن العشرين.
وقد مضى عادل حسين النصف الثاني من السبعينيات بأكمله، يكتب أكثر من ألف صفحة ليدلل على الحقيقة الآتية ويدعمها بالوثائق.
وهي أن تحول مصر خطوة بخطوة من سياسة الاستقلال الاقتصادي إلى الانفتاح فيما بين الستينيات والسبعينيات، لم يكن اختيارًا مصريًا، بل فرض على مصر بالقوة، وباستخدام مختلف وسائل الضغط من قوى خارجية.
ولكن انشغال عادل حسين بقضية الانفتاح الاقتصادي وأثره على الاستقلال الوطني، جره شيئًا فشيئًا إلى توسيع معنى هذا الاستقلال، فلم يعد في نظره مجرد الاستقلال الاقتصادي،
أو الاستقلال السياسي، بل اتسع ليشمل الاستقلال الحضاري والثقافي.
وهكذا كان الانتقال الفكري من الماركسية إلى الإسلام، في نظر عادل حسين، أبسط بكثير مما يظن الكثيرون.
لقد أراد عادل حسين أن يفهم الاستقلال بمعنى أوسع من المعنى الذي يؤكد عليه الماركسيون، فالوطن لا يستقل فقط بطرد الجيوش الأجنبية، ولا يستقل فقط بتأميم المشروعات المملوكة للأجانب، أو بنقل ملكية المصريين، وإنما لا يستقل الوطن إلا بصيانة تقاليد الأمة وثقافتها، والإسلام هو بالطبع مصدر أساسي من مصادر هذه التقاليد والثقافة.
بدأ هذا التحول يظهر بوضوح في بعض أجزاء كتابه "الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية"، فهو ينتقد بصراحة "غالبية مفكري اليسار في الغرب" لأنها "تغفل أهمية الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي في إحداث تنمية جادة، ولكنها لا تتخيل أبدًا أن الاستقلال الحضاري ممكن أيضًا أو مطلوب" (الجزء الأول، ص 313).
كما ينتقد بعض مفكري أمريكا اللاتينية من أصحاب نظرية التبعية، مثل أنديه جوندار فرانك، لأنهم "لا يتصورون أن هناك هدفًا حضاريًا غير الوصول إلى صورة من صور المجتمع الغربي"، (الجزء الأول، ص 375).
حتى هذه النقطة لا أعتقد أن كثيرين يمكن أن يختلفوا مع عادل حسين، أو لا يمكن لي على الأقل أن اختلف معه، وقد كان بيننا بالفعل في النصف الأول من الثمانينيات اقتراب فكري حميم دعا البعض إلى تصنيفنا في مجموعة فكرية واحدة سميت أحيانًا "بالتراثيين الجدد".
ولكن عادل حسين ذهب إلى أبعد من هذا مدفوعًا بقوة حماسه، وتصميمه على تحويل الفكر الذي يؤمن به إلى نتائج عملية.
كان قد تعلم من الماركسية ذلك الدرس الصحيح في رأيي من أنه لا يمكن أن يقدر لأي فكرة أن تنجح على أرض الواقع، إلا إذا حملتها شرائح أو طبقات اجتماعية تجد مصلحتها في تحقيق هذه الفكرة وتطبيقها، إذا لم يحدث هذا فستظل الفكرة في الرأس، أو في الكُتُب، ومهما كانت درجة صحتها، أو نبل دوافعها؛ فلن يجديها هذا شيئًا إذا حرمت من هذا الدعم الجماهيري.
كان عادل حسين على صواب في هذا، وربما كان على صواب أيضًا في اعتقاده بأن استجابة الجماهير في مصر لأي حركة فكرية أو سياسية، على الأقل في هذا العصر، لا يمكن أن تتحقق إلا إذا استندت هذه الحركة بصورة أو أخرى إلى الدين.
قد يكون كل هذا صحيحًا، ولكن كان هناك في رأيي خطر لا أظن أن عادل حسين قدره حق قدره، ويتمثل في الحقيقية الآتية: ليس من السهل أبدًا، على مفكر سياسي أو اجتماعي، حتى ولو كان له ذكاء عادل حسين، وقوة عزيمته، وقدرته على الإقناع، أن يقود الجماهير المتدينة إلى تبني مفهومه هو الخاص جدًا والمتقدم جدًا، للدين، بل إن هناك خطرًا حقيقيًا أن يخضع القائد نفسه، شيئًا فشيئًا، لتفسيرات أقل تقدمًا بكثير وأقل عقلانية، وذلك تحت تأثير هذه الجماهير، ومن ثم تسرع في تقديم تنازل بعد آخر يبعد به شيئًا فشيئًا عن تفسيره الخاص الذي كان يطمح إلى إقناع الناس به.
قد يذهب البعض إلى أن عادل حسين قد أصابه هذا الخطر، وأنه قدم بالفعل من هذه التنازلات لجمهوره ومحبيه، أكثر مما يجب، على أمل أن يحقق نجاحًا في بعض المجالات الأكثر أهمية، من مجالات الاستقلال الوطني، وأن انخراطه في العمل السياسي اليومي منعه من أن يرى بوضوح جسامة هذا الخطر الذي كان يتعرض له.
وأنا من جانبي أتفق مع هذا التشخيص لبعض مواقف عادل حسين السياسية الأخيرة؛ مما يذكرنا بقصة جورج أوريل الشهيرة التي أسماها (مقتل الفيل) والتي وصف فيها حال ضابط شرطة شجاع (ربما كان هو أوريل نفسه) كلف بالذهاب إلى منطقة خرج فيها فيل ضخم مجنون يعيث في البلد فسادًا، في إحدى الدول الآسيوية، ويهدد حياة الناس بالخطر، وأُعطي حرية التصرف في أن يقتله، أو يكتفي بصيده وشل حركته.
ولكن الضابط أثناء رحلته، مر بجماهير غفيرة كانت قد سمعت بقصة الفيل فساروا وراء الضابط آملين أن يروا مشهدًا مثيرًا، وكانوا يتحفزون لرؤية الفيل مقتولاً، ولا يكتفون بمجرد تهدئته وشل حركته، وأثناء هذه المسيرة ظل عدد الجماهير السائرة وراء الضابط شيئًا فشيئًا حتى أصبحوا آلافا مؤلفة، كلهم يريدون أن يروا الفيل قتيلاً، فإذا بالضابط يعجز عن مقاومة نفوذهم وقوة تأثيرهم، ولو بسبب العدد وحده، وإذا به يطلق الرصاص على الفيل فيقتله، دون أن تكون هناك حاجة في الواقع للذهاب إلى هذا المدى.
ومع كل هذا فإن من المؤكد لدى الكثيرين من أصدقاء عادل حسين ومحبيه، وممن كانوا يعرفون شخصيته وطباعه، أن عادل حسين لم يفقد في يوم من الأيام إخلاصه لقضية نبيلة، هي قضية الاستقلال الوطني، سواء في مرحلة الماركسية، أو مرحلة الإسلامية، وسواء كان هذا الاستقلال الذي ينزع إليه سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو حضاريًا، لقد كان مدخل عادل حسين إلى الإسلام مدخلاً نبيلاً، كما كان مدخله إلى الماركسية مدخلاً نبيلاً أيضًا، وسوف يكافئه الله بمقدار نبل مقاصده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق