أعيد نشر هذا المقال الذي اقتطعت منه بعض الصحف عبارات بعنوان لا يطابق مضمونه وهو"محسوب: هناك أحداث جسام خلال أشهر ستغير كل شئ"..ولم أكن لأهتم بما تنشره الصحف وما لا تنشره سوى أن بعض من أقدرهم علقوا على العنوان الصحفي دون أن يطالعوا النص الأصلي.. ..فالمقال يتناول باختصار تطورات التحالفات الدولية لمحاصرة المنطقة منذا 1840 ومحاولة شعوبها الانعتاق من دائرة التهميش والإفقار والاستبداد..
مصر وتركيا وتحالفات 1840 و1914 و2014:
كان يمكن للتمدد المصري عبر الشام وصولا إلى أبواب الإستانة أن يكون إعادة إحياء لنهضة الشرق وإعادة توازن لعلاقات القوى الدولية التي كانت مائلة بالفعل لصالح القوى الغربية عبر إصلاح كيان الدولة العثمانية.. غير إن محمد على في نقاش حاد بينه وبين ابنه القائد العظيم إبرهيم باشا ، في ليلة من ليالي شتاء 1838 ، قال صراحة إنه متمسك بالوضع التقليدي الذي ورثته المنطقة ولا يميل لإجراء أي تغيير.. وأن طرقه على أبواب الإستانة لا تهدف سوى الضغط على السلطان لمنحه وأولاده مزيدا من الحقوق والميزات على مصر والشام..
كان ابنه القائد الشاب يرنو إلى إعادة تجديد دماء الخلافة وبناء المنطقة على أسس أكثر معاصرة بغرض وقف الزحف الغربي على أطراف، بل وقلب الشرق.. لكن الباشا العجوز لم يكن يحلم بأكثر من تأمين مستقبل أبنائه كما تصوّر في حكم بعض ولايات السلطنة..
ارتبكت حركة الجيوش المصرية المقاتلة على جبهة الأناضول بسبب عدم وضوح الرؤية.. فاستغل الغرب اللحظة لإنشاء تحالف عسكري واسع تمكن سريعا من السيطرة على خطوط الإمدادات البحرية ومحاصرة الشواطئ المصرية والسورية.. ومن ثم بدأ في فرض شروطه التي تراوحت بين العسكري والاقتصادي.. فمن ناحية فًرض على الدولة المصرية خصخصة منشآتها التجارية والصناعية وعدم زيادة الرسوم الجمركية على الواردات الأوربية بما يزيد على 12% ومن ناحية أخرى تقييد قدرة الجيش المصري بتحديد أعداده وتقييد منح الرتب وحظر بناء السفن المدرعة وتصنيع المدافع الثقيلة..
استسلم محمد على لشروط التحالف الدولي مقابل احتفاظه بحكم مصر والسودان دون أن يدري أن مصر ستُفصل عن السودان أيضا بعد قرن من الزمان..
وكان نتيجة قبول محمد على لشروط التحالف إنهيار منظومة الاستقلال الوطني من اقتصاد وجيش وصناعات مدنية وحربية.. وأُسند لمصر دور خدمي في النظام العالمي ، فأصبح اقتصادها يدور حول زراعة وتصدير القطن ؛ ثم أُضيفت القناة إلى مجمل المنظومة الخدمية للبلاد لتصبح معبرا بريا وبحريا للبضائع والتجار والجيوش..
ولا يزال النظام الدولي بقيادته الأمريكية يعمل بجد للاحتفاظ بمصر ضمن تلك الوظيفة..
أما تركيا، فإنها صاحبة أثقل ظل في التاريخ الأوربي الوسيط والحديث.. فجيوشها التي أطلت على معظم مدن أوربا عدة قرون لاتزال تُزعج بخيالاتها جفون الأوربيين رغم تراجعها منذ نهاية القرن السابع عشر حتى استقرت حول استانبول في الحرب العالمية الأولى لتخوض حرب دفاع عن الوجود في مواجهة تحالف دولي تشكل سنة 1914 بدل حروب الفتوح الأولى.. ولأن الجيوش الغربية لا تنسى أبدا التاريخ فإن تفتيت الميراث العثماني كان هدفا عسكريا للحرب ، والتي انتهت فعلا بتقسيم مهين للمنطقة لم تنقضِ توابعه إلى اليوم..
واليوم يبدو أن الغرب اكتشف أن عملية التقسيم لم تكن كافية ، وأن مزيدا من التفتيت ربما يقيه احتمال استعادة أي من دول ومكونات المنطقة لعافيتها مرة أخرى.. وكان منع نجاح الديموقراطيات بالمنطقة هو جزء من تغييب الشعوب للاستفراد بحكومات ضعيفة لا تملك شرعية حقيقة وتصبح طوع بنان القوى الغربية فتسارع بتنفيذ ما يُطلب منها (كإقامة مناطق عازلة بين شعوبها).. وهكذا أصبحت تلك الحكومات ذاتها هي أدواتها في عملية التقسيم الجديدة، بل سارع بعضها للانضمام إلى تحالف 2014 بقيادة الولايات المتحدة بغرض إعادة ترسيم المنطقة..
لكن يبدو أن تركيا عادت مرة أخرى لتصبح رقما صعبا في المنطقة بفضل تكريسها للنظام الديموقراطي، فلم تعد طيّعة كما كان حالها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ، فأصبحت لها رؤى مستقلة وسياسات تستهدف تحقيق مصالحها وإن تعارضت مع مصالح غيرها من القوى المهيمنة على النظام الدولي.. باختصار عادت تركيا صداعا في رأس النظام الدولي.. وهو ما زاد قلق القوى الغربية من انتشار الحريات والديموقراطيات في المنطقة.. وزاد عزمها على محاصرتها كمرض عُضال يهدد هيمنتها على النظام العالمي..
تدعم موقف تركيا كثيرا بانتصار الثورة المصرية بعد أن تغيرت المعادلة وأصبح خطّ القاهرة استانبول يسير في اتجاه واحد دفاعا حق شعوب المنطقة في الحرية وفي التحكم في مصادر ثرواتها .. وبالتالي فإن إعادة القاهرة للقيد اعتبرته القوى الغربية شرطا لاستعادة الطوق حول تركيا ، وهي أهم غايات تحالف 2014..
لكن المسألة أعقد مما يظنه خلفاء سايكس بيكو.. فالقاهرة لم تعد تماما للقيد بدليل الحراك الذي لا يكلّ.. وربما أعادها هذا الحراك فجأة لحلبة التفاعل ولدائرة الحرية، وهو ما يفسر حجم العنف الذي يستخدمه الانقلاب في مواجهة الحراك وحجم الصمت المخزي الذي تتذرع به القوى الغربية إزاء جرائم واضحة ضد الإنسانية..
كما إن تركيا ليست بترهلها وسذاجتها السياسة كما كانت قبيل الحرب العالمية الأولى.. والأهم من كل ذلك فإن شيئا تغير في التكوين الثقافي لشعوب المنطقة فأصبحت فئات واعية منها جزءا من المعادلة، سيثبت المستقبل القريب أنه الجزء الأهم.. وستحمل الشهور القادمة في طياتها أحداثا جديدة تؤكد عودة الشرق للصعود لإحداث توازن عادل في علاقات النظام الدولي وتحقيق قدر معقول من الاستقرار والرفاهية والعدالة لشعوب المنطقة..
مصر وتركيا وتحالفات 1840 و1914 و2014:
كان يمكن للتمدد المصري عبر الشام وصولا إلى أبواب الإستانة أن يكون إعادة إحياء لنهضة الشرق وإعادة توازن لعلاقات القوى الدولية التي كانت مائلة بالفعل لصالح القوى الغربية عبر إصلاح كيان الدولة العثمانية.. غير إن محمد على في نقاش حاد بينه وبين ابنه القائد العظيم إبرهيم باشا ، في ليلة من ليالي شتاء 1838 ، قال صراحة إنه متمسك بالوضع التقليدي الذي ورثته المنطقة ولا يميل لإجراء أي تغيير.. وأن طرقه على أبواب الإستانة لا تهدف سوى الضغط على السلطان لمنحه وأولاده مزيدا من الحقوق والميزات على مصر والشام..
كان ابنه القائد الشاب يرنو إلى إعادة تجديد دماء الخلافة وبناء المنطقة على أسس أكثر معاصرة بغرض وقف الزحف الغربي على أطراف، بل وقلب الشرق.. لكن الباشا العجوز لم يكن يحلم بأكثر من تأمين مستقبل أبنائه كما تصوّر في حكم بعض ولايات السلطنة..
ارتبكت حركة الجيوش المصرية المقاتلة على جبهة الأناضول بسبب عدم وضوح الرؤية.. فاستغل الغرب اللحظة لإنشاء تحالف عسكري واسع تمكن سريعا من السيطرة على خطوط الإمدادات البحرية ومحاصرة الشواطئ المصرية والسورية.. ومن ثم بدأ في فرض شروطه التي تراوحت بين العسكري والاقتصادي.. فمن ناحية فًرض على الدولة المصرية خصخصة منشآتها التجارية والصناعية وعدم زيادة الرسوم الجمركية على الواردات الأوربية بما يزيد على 12% ومن ناحية أخرى تقييد قدرة الجيش المصري بتحديد أعداده وتقييد منح الرتب وحظر بناء السفن المدرعة وتصنيع المدافع الثقيلة..
استسلم محمد على لشروط التحالف الدولي مقابل احتفاظه بحكم مصر والسودان دون أن يدري أن مصر ستُفصل عن السودان أيضا بعد قرن من الزمان..
وكان نتيجة قبول محمد على لشروط التحالف إنهيار منظومة الاستقلال الوطني من اقتصاد وجيش وصناعات مدنية وحربية.. وأُسند لمصر دور خدمي في النظام العالمي ، فأصبح اقتصادها يدور حول زراعة وتصدير القطن ؛ ثم أُضيفت القناة إلى مجمل المنظومة الخدمية للبلاد لتصبح معبرا بريا وبحريا للبضائع والتجار والجيوش..
ولا يزال النظام الدولي بقيادته الأمريكية يعمل بجد للاحتفاظ بمصر ضمن تلك الوظيفة..
أما تركيا، فإنها صاحبة أثقل ظل في التاريخ الأوربي الوسيط والحديث.. فجيوشها التي أطلت على معظم مدن أوربا عدة قرون لاتزال تُزعج بخيالاتها جفون الأوربيين رغم تراجعها منذ نهاية القرن السابع عشر حتى استقرت حول استانبول في الحرب العالمية الأولى لتخوض حرب دفاع عن الوجود في مواجهة تحالف دولي تشكل سنة 1914 بدل حروب الفتوح الأولى.. ولأن الجيوش الغربية لا تنسى أبدا التاريخ فإن تفتيت الميراث العثماني كان هدفا عسكريا للحرب ، والتي انتهت فعلا بتقسيم مهين للمنطقة لم تنقضِ توابعه إلى اليوم..
واليوم يبدو أن الغرب اكتشف أن عملية التقسيم لم تكن كافية ، وأن مزيدا من التفتيت ربما يقيه احتمال استعادة أي من دول ومكونات المنطقة لعافيتها مرة أخرى.. وكان منع نجاح الديموقراطيات بالمنطقة هو جزء من تغييب الشعوب للاستفراد بحكومات ضعيفة لا تملك شرعية حقيقة وتصبح طوع بنان القوى الغربية فتسارع بتنفيذ ما يُطلب منها (كإقامة مناطق عازلة بين شعوبها).. وهكذا أصبحت تلك الحكومات ذاتها هي أدواتها في عملية التقسيم الجديدة، بل سارع بعضها للانضمام إلى تحالف 2014 بقيادة الولايات المتحدة بغرض إعادة ترسيم المنطقة..
لكن يبدو أن تركيا عادت مرة أخرى لتصبح رقما صعبا في المنطقة بفضل تكريسها للنظام الديموقراطي، فلم تعد طيّعة كما كان حالها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ، فأصبحت لها رؤى مستقلة وسياسات تستهدف تحقيق مصالحها وإن تعارضت مع مصالح غيرها من القوى المهيمنة على النظام الدولي.. باختصار عادت تركيا صداعا في رأس النظام الدولي.. وهو ما زاد قلق القوى الغربية من انتشار الحريات والديموقراطيات في المنطقة.. وزاد عزمها على محاصرتها كمرض عُضال يهدد هيمنتها على النظام العالمي..
تدعم موقف تركيا كثيرا بانتصار الثورة المصرية بعد أن تغيرت المعادلة وأصبح خطّ القاهرة استانبول يسير في اتجاه واحد دفاعا حق شعوب المنطقة في الحرية وفي التحكم في مصادر ثرواتها .. وبالتالي فإن إعادة القاهرة للقيد اعتبرته القوى الغربية شرطا لاستعادة الطوق حول تركيا ، وهي أهم غايات تحالف 2014..
لكن المسألة أعقد مما يظنه خلفاء سايكس بيكو.. فالقاهرة لم تعد تماما للقيد بدليل الحراك الذي لا يكلّ.. وربما أعادها هذا الحراك فجأة لحلبة التفاعل ولدائرة الحرية، وهو ما يفسر حجم العنف الذي يستخدمه الانقلاب في مواجهة الحراك وحجم الصمت المخزي الذي تتذرع به القوى الغربية إزاء جرائم واضحة ضد الإنسانية..
كما إن تركيا ليست بترهلها وسذاجتها السياسة كما كانت قبيل الحرب العالمية الأولى.. والأهم من كل ذلك فإن شيئا تغير في التكوين الثقافي لشعوب المنطقة فأصبحت فئات واعية منها جزءا من المعادلة، سيثبت المستقبل القريب أنه الجزء الأهم.. وستحمل الشهور القادمة في طياتها أحداثا جديدة تؤكد عودة الشرق للصعود لإحداث توازن عادل في علاقات النظام الدولي وتحقيق قدر معقول من الاستقرار والرفاهية والعدالة لشعوب المنطقة..