شهد التاريخ الإسلامي شخصيات عديدة يقف لها التاريخ الإنساني وقفة فخر وعز ، لما قدموه للبشريه من علوم وثقافة فى شتى المجالات ، ومن الطبيعي أن يهتم المؤرخون بالقامات الكبيرة في أممهم ، ومن ثم يسعون إلى الكتابة عنها، إشادة بإنجازاتها وحرصًا على تخليد ذكراها، ردًا لجميلها وحرصًا على أن تكون قدوة للأجيال القادمة ، إلا في مصر ، فالتاريخ هنا حكرًا على أصحاب الصوت العالى والمؤلفات الكثيرة ، والحضور الإعلامي الفخم ، والأداء المسرحي العالي.
الكاتب يوسف زيدان يخرج علينا كل فتره بمادة جديدة مثيرة للشفقة والسخرية فى آنٍ واحد ، سخيرية من السموم التى تبرز مدى حقده الدفين لهذا التاريخ المشرف ، وجهله المريب بما يقوله ، وشفقة علي عمره وعقله الذي أفناه هباءًا فى التدليس والكذب من خلال حواراته وتصريحاته ، وعلى ممن يصغون إليه ويصدقوه فيما يقول ، رغم أن التاريخ ينفى ما يدعيه جملة وتفصيلا.
زيدان خرج منذ فترة بنوع غريب من التدليس ، نفى بزعمه آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفه ، عن موضع ومكان المسجد الأقصى المبارك ، حيث ادعى أن المسجد الأقصي الموجود فى فلسطين لم يكن موضع إسراء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الأمر الذي أكده القرآن الكريم فى صدر سورة الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ? إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، بالطبع علماء اللغه يمكنكم تكذيب رواية يوسف زيدان الذي قال فيها أن المسجد الأقصى موجود في مكان ما بين مكة والطائف وقد زاره النبي -صلى الله عليه وسلم- اثناء زيارته للطائف نهارًا.
كما أن الأحاديث النبوية والوقائع التاريخيه تؤكد أن يوسف زيدان لا يقول إلا قصة نسجها خياله وراح يروج لها بكل تأكيد وعزم ، فإين نذهب من الأيات والأحاديث ، وأين نذهب من قصة فتحح بيت المقدس على يد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب ؟.
لم أكن اتمني أن أذكر هذه الواقعه للكاتب ، لأن الرد عليه فيها لا يستوجب تدقيقًا أو بحثًا ، لا يستدعى ما قاله أن نحشد له العلماء وأن ندقق فى الروايات ، أو حتى ندلوا بأسماء الكتب التاريخه الموثوقه ، فكلنا نعلم الحقيقة علم اليقين ، ولكن ما استوقفنى حقًا هو التدليس الممنهج الذي يشنه على الشخصيات التاريخه التى شهدت بعدلها الأعداء قبل الأصدقاء ، وهو الأمر الذي يتطلب جهدًا وفيرًا لنقول له انه يقينًا يتحدث فيما يجهل ، أو لا يدرى ما يقول.
هجوم يوسف زيدان على الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، الملك المظفر محمود بن ممدود او غيرهم من العظماء الذين اجتهدوا فى ارساء العدل والتسامح والاعتدال والتآخي ، حتى باتت سيرتهم عطره طيبه يقتدى بهم ، ويخطوا الناس على خطاهم ، فليس أنا أو غيري من يملك حكمًا على من قدموا للبشريه كلها خيرًا وفيرًا ، وبالطبع حفل تاريخنا الإسلامي بكثير من القادة والأبطال، ممن سجلت ساحات الحرب والفتوحات بطولاتهم ومآثرهم، لكن أبي المظفر يوسف بن أيوب، صلاح الدين، يبقى مميزًا، ذي طبيعة خاصة تختلف عن غيره من القادة.
الحقيقة أن هناك حملات ممنهجه تُدار بشراسه غريبه لتشويه الشخصيات العظيمة التى صنعت لهذه الامة مجدًا خرافيًا ، فيمن الأعمال الدرامية التى نالت من السلطان سليمان القانوني ، وهارون الرشيد ، وغيرهم ، وصل الحال بنا إلى أن نسمع عن اكتشافات غريبه وعجيبه ، عن عقبة بن نافع وعمرو بن العاص وموسى بن نصير.
الكاتب الذي يريد أن يصور للعالم أن صلاح الدين الأيوبي -بحسب ما قاله فى برنامج الإعلامي عمرو أديب- شخصية دمويه ، ووصفه بـ"الحقير" وراح يصب عليه التهم الباطلة ، بدون ادنى شك لا يعلم شئ عن التاريخ المصري كأقل تقدير ، لذا فأنا ارسل له بهذه الرسالة القصيرة لربما يتعرف على شخصية الناصر الأيوبي من جديد.
ربما لم يقرأ الكاتب مال قاله الشيخ الإمام العلامة الفقيه النحوي اللغوي الطبيب ، موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف ، الذي قال: "أتيت وصلاح الدين بالقدس ، فرأيت ملكا يملأ العيون روعة ، والقلوب محبة ، قريباً بعيداً سهلاً محبباً ، وأصحابه يتشبهون به يتسابقون إلى المعروف ، كما قال تعالى : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) وأول ليلة حضرته وجدت مجلسه حَفْلاً بأهل العلم يتذاكرون ، وهو يحسن الاستماع والمشاركة ، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار ، وحفر الخنادق ، ويأتي بكل معنى بديع ، وكان مهتما في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه ، ويتولى ذلك بنفسه ، وينقل الحجارة على عاتقه ويتأسى به الخلق حتى القاضي الفاضل ، والعماد إلى وقت الظهر ، فيمد السماط ويستريح ويركب العصر ، ثم يرجع في ضوء المشاعل" ، وأنى على علم يقين ، لو أن يوسف زيدان قرأ مثل هذا مثلا لما كان يخرج علينا ليقول كل هذا الكلام المخزي.
كما أن "أنتوني ناتنج" وزير الدولة للشئون الخارجية البريطانية ، قال: "كان صلاح الدين فارساً من أعظم الفرسان و بطلاً مغواراً " ، والمؤرخ الإنجليزي "رونيسمان" ، قال أن "صلاح الدين لم يكن مثل ملوك الصليبيين ، لم يتراجع عن كلمته مطلقاً مع أي شخص بغض النظر عن ديانته ، و كان دائماً مجاملاً كريماً رحيماً عندما يكون منتصراً و كان قاضياً عادلاً متساهلاً" ، بل أن الروائي والكاتب المسرحي الأسكتلندي "ولتر سكوت" ، فقد أظهر صلاح الدين في روايته "الطلسم" العدو الشهم الذي يقدم يد العون والمساعدة حتى لخصمه الذي قطع الاف الاميال لمقاتلته ويقول عنه انه "فاق اعظم الفرسان الانجليز شهامة ونبلا ًونكران ذات , فهو الذي ينقذ عدوه من الموت".
أما إن أردت أن تتعرف عن الشخصية ذاتها ، فأقول لك ، أن يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان أبو المظفر صلاح الدين الأيوبي ، كان نزيهًا عفيفًا فلم يترك في خزانته عندما مات سوى 17 درهمًا ، وقد بدأ حكمه بالعدل بين الناس , وبإعداد الجند وتدريبهم أحسن تدريب , وبث فيهم روح الجهاد والثقة في نصر الله لتحقيق حلم الوحدة الإسلامية ، وكانت البداية أن استنجدت به مدينة "دمشق" ، فتحرك إليها ، وتمكن من السيطرة عليها وضمها إلى مصر كما ضم حماة وحلب وبعلبك ، وهذه الوحدة الإسلامية استغرقت أكثر من عشر سنوات من الجهد الشاق والعمل الجاد.
وتجلت سماحة الناصر صلاح الدين في دخوله مدينة القدس ، فلم يثأر للمذابح التي ارتكبها الصليبيون عندما احتلوا المدينة ، ولكنه سمح لكل صليبي أن يفتدى نفسه، كما أعفى أكثر من ألفين من الأسرى من دفع الفدية ؛ لأنهم لم يكن معهم مال ليفتدوا به أنفسهم ، ومن الأمور اللافتة ما حدث من طلب العادل من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير من الفقراء على سبيل المكافأة عن خدماته له مظهرًا بذلك تسامحًا كبيرًا، فوهبهم له؛ وإذ ابتهج البطريرك لذلك, لم يسعه إلا أن يطلب من صلاح الدين أن يهبه بعض الفقراء ليطلق سراحهم، فاستجاب لطلبه, ثم أعلن أنه سوف يطلق سراح كل شيخ, وكل امرأة عجوز, كما ذهب بعيدًا حين وعد نساء الصليبيين بأن يطلق سراح كل من في الأسر من أزواجهن, ومنح الأرامل واليتامى العطايا من خزائنه كل واحد بحسب حالته.
فإن كان هذا هو الحقير الذي يتحدث عنه يوسف زيدان ، فلماذا لم يتحرك عظماء هذه العصر ليفعلوا مثلما فعل هذا "الحقير" ، الذي حرر القدس ، واعطى الفقراء ، وجعل من دولته قوة عظمى يخشاها القريب والبعيد ، ولماذا لم نرى فى قصته على مدار القرون الماضيهه ما يجعلنا نبغضه ، ولا نحلم أن نكون مثله ذات يوم.