الثلاثاء، 14 يونيو 2016

عبد الرحمن الكواكبي.. أبا الضعفاء ووالي حلب..خيرُ مظلومٍ وخيرُ كاتبِ

عبد الرحمن الكواكبي.. أبا الضعفاء ووالي حلب..خيرُ مظلومٍ وخيرُ كاتبِ

 منذ 4 ساعة
 عدد القراءات: 332
عبد الرحمن الكواكبي.. أبا الضعفاء ووالي حلب..خيرُ مظلومٍ وخيرُ كاتبِ

كثيرون هم الشرفاء والنبلاء ممن خرجوا من أرحام هذه الامة ، من دافعوا عنها وبذلوا الغالى والنفيس لرفعتها وإعلاء كلمة الله في أرجاء المعمورة ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
منهم من مات شامخاً حاملاً لواء الحق ، ومنهم من قُتل غداراً ، ومنهم من تم إعدامة مكافأةً له نظير شجاعته ووطنيته ، ومن من مات شهيداً ممجداً في ساحات النزال ، ومنهم "عبد الرحمن الكواكبي" أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي.
وتتذكر جريدة "الشعب" في ذكري وفاة الراحل عبد الرحمن الكواكبي رائد النهضة العربية والاجتماعية والوطنية، والمناضل الصنديد ضد العهد الاستبدادي، ومثال العالم العامل والساعي وراء النهوض بالأمة واصلاحها وصلاحها والذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم منذ 114 عام من خلال هذا التقرير.

من هو عبد الرحمن الكواكبي؟

ولد عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي في 23 شوال سنة 1271هـ الموافق 9 يوليو 1855 في مدينة حلب السورية لعائلة لها شأن كبير وتاريخ حافل، فوالده هو أحمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي وأحد أجداده هو إسماعيل الصفوي مؤسس الأسرة الصفوية في تبريز والتي حكمت إيران قرابة قرن ونصف من الزمان.

الكواكبي حفيد عليّ!

ينتسب الكواكبي من أبويه إلى الصحابي الجليل وأمير المؤمنين الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كما روى صاحب النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح نسب الأسرة نقلًا عن كتاب "النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" الذي ألفه حسن بن أحمد بن أبي السعود الكواكبي، فجاء فيه أن السيد أحمد هوابن أبي السعود بن أحمد بن محمد بن حسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد بن أبي يحيى المعروف بالكواكبي ابن صدر الدين موسى الأردبيلي ابن الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي ابن الشيخ الزاهد أمين الدين ابن الشيخ السالك جبريل ابن الشيخ المقتدي صالح ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر ابن الشيخ صلاح الدين رشيد ابن الشيخ الزاهد محمد الحافظ ابن الشيخ الصالح الناسك عوض الخواص ابن فيروز شاه البخاري بن مهدي بن بدر الدين حسن بن أبي القاسم محمد بن ثابت بن حسين بن أحمد بن الأمير داود بن علي بن الإمام موسى الثاني بن الإمام إبراهيم المرتضى بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب.
ووالدته الشريفة عفيفة بنت بهاء الدين بن إبراهيم بن بهاء الدين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن شمس الدين الحسن بن علي بن أبي الحسن بن الحسين شمس الدين بن زهرة أبي المحاسن بن الحسن بن زهرة أبي المحاسن بن علي أبي المواهب بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن على وهي ابنة مفتي أنطاكية في سوريا.

التعليم

كانت مدينة حلب التي كانت تزدهر بالعلوم والفقهاء والعلماء في الشريعة والأدب وعلوم الطبيعة والرياضة في المدرسة الكواكبية التي تتبع نهج الشريعة في علومها، وكان يشرف عليها ويدرس فيها والده مع نفر من كبار العلماء في حلب.
لم يكتف بالمعلومات المدرسية، فقد اتسعت آفاقه أيضاً بالاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية التي تحتوي مخطوطات قديمة وحديثة، ومطبوعات أول عهد الطباعة في العالم، فاستطاع أن يطلع على علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم.

كفاح الحياة

كانت الصحافة وسيلة ومنبراً رفيعاً من منابر الإصلاح، وكان الكواكبي يكتب في صحيفة الفرات التي كانت تحرر بالعربية والتركية، وأنشأ صحيفة "الشهباء" مع السيد هاشم العطار وهو ابن بضعٌ وعشرون سنه وأخذت مقالاته النارية العميقة توقظ ضمائر مواطنيه، وتفضح الاستبداد آنذاك، فأغلقها الوالي العثماني "كامل باشا". 
لم يستسلم الكواكبي فأنشأ جريدة "الاعتدال" وواصل فيها تقديم آرائه وأفكاره، لكنها هي الأخرى أغلقتها الحكومة لجرأة صاحبها في انتقاد سياستها.
 
ودخل في وظائف الدولة رسميًّا في الثامنة والعشرين من عمره في سنة 1292 تم تعينه محرراً تحت الاختبار فى جريدة الفرات حتى تم تثبيته رسمياً عام 1293 براتب قدره ثمانمائة قرش. 
في 5 ربيع الأول سنة1295في سنة 1879 عُين الكواكبي عضواً فخرياً في لجنة المعارف، ولجنة المالية في ولاية حلب، كما عُين عضواً في لجنة الأشغال العامة، ثم أخذت أعماله ومسئولياته تمتد إلى العديد من اللجان والمناصب في مجموعة كبيرة من القطاعات. 
في 2 جمادى الأولى تعين محررًا للمقاولات "مسجل المحكمة" وفي 16 ربيع الثاني سنة 1298 صار مأمورالإجراء "رئيس قلم المحضرين" في ولاية حلب.
وفي 7 رمضان سنة 1298 عين عضوًا فخريًّا للجنة "قومسيون" النافعة وفي 22 ذي القعدة سنة 1299 عين بأمر نظارة العدلية "الحقانية" في الآستانة عضوًا في محكمة التجارة بولاية حلب مع البقاء في وظيفته الأولى "محرر المقاولات" وفي سنة 1303 انفصل من هذه الأخيرة وفي 4 رجب سنة 1304 عاد إلى وظيفة مأمور الإجراء، وفي 23 رجب سنة 1310 عين رئيسًا للبلدية.
إلى هنا انتهت وظائف الترجمة الرسمية الأولى، وجاء في الثانية بعد ذكر ما تقدم أنه في 29 من ربيع الأول سنة 1312 عين رئيس كُتّاب المحكمة الشرعية في حلب (باشكاتب) بقرار من مجلس النواب في دار السعادة. وفي 28 ذي الحجة سنة 1312 عين ناظرًا ومفتشًا لمصلحة انحصار الدخان (الريجي) المشتركة مع نظارة المالية في ولاية حلب ومتصرفية الزور، وفي أثناء ذلك اتفق مع إدارة المصلحة وتعاقدا على أن يستلم من المصلحة جميع ما تقدمه من الدخان (التبغ) إلى الولاية المتصرفية بزيادة كثيرة عن القدر المعتاد وجميع ما يزرع فيهما منه، ويتولى بيعه، وتعهد في إزاء ذلك بمبلغ من المال يزيد عما كانت تبيع به المصلحة دخانها زيادة كبيرة.
وفي غضون ذلك استقال من رياسة كتاب المحكمة الشرعية ثم في 9 ذي الحجة سنة 1314 أعيد إليها وعين رئيسًا للجنة البيع والفراغ أي استبدال الأراضي الأميرية من أصحاب اليد بالمال وفي 7 ربيع الأول عين رئيسًا أولاً لغرفة التجارة في حلب ورئيسًا لمجلس إدارة المصرف الزراعي، وفي 22 رجب عين قاضيًا شرعيًّا لراشيا التابعة لولاية سوريا.

الكواكبي في المعتقل

وبعد حرماته من جريدة "الاعتدال"، تولى الكواكبي بوصفه نقيبا للأشراف رئاسة المحكمة الشرعية، وأصبح عضوا في محكمة التجارة لولاية حلب، فرئيسا لغرفة التجارة، ومديرا للبنك الزراعي غير أن حبه للاصلاح وحرية القول حال دون استمراره في المناصب الحكومية الرفيعة، فاستقال عنها عام 1868. 
انكب عبد الرحمن الكواكبي لجمع المادة اللازمة لنشر كتاب يعري فيه مظالم السلطات التركية، ويدافع فيه عن المظلومين والمستضعفين ضد الموظفين والولاة الأتراك وفي العام ذاته سجن الكواكبي بتهمة ملفقة حول الاشتراك في محاولة اغتيال كامل باشا الوالي العثماني وانطلقت حملة جماهيرية لاطلاق سراحه، فأفرج عنه بعد أيام.
عزلت السلطات التركية الوالي كامل باشا، واضطر الوالي الجديد الى تعيين الكواكبي رئيسا لبلدية حلب وتابع الكواكبي نضاله دفاعا عن الضعفاء من العرب والأتراك معا حتى سماه الحلبيون "أبا الضعفاء". 
وفي أواخر التسعينيات اصطدم الكواكبي مجددا بالوالي التركي عارف باشا الذي اشتهر باستبداده وحبه للرشوة، والذي وجه اليه تهمة رئاسة جمعية سرية معادية للدولة والإسلام، فضلا عن الاتصال بدولة أجنبية. وسجن الكواكبي من جديد، وحوكم وحكم عليه بالاعدام. بيد أن محكمة الاستئناف في بيروت لم تأبه لخطورة شهادات الزور المتقدمة بقدر ما راعت قضية الجماهير الشعبية في حلب. ولذلك أصدرت حكما ببراءته. ولكن جواسيس السلطان كانوا على معرفة بالعلاقة الوثيقة بين الكواكبي من جهة وبين أبناء الجالية الايطالية في حلب أعضاء جمعية "ايطالية الفتاة" تلك العلاقة التي جعلت بعض الكتاب العرب يجزمون بأن الرائد العربي البارز كان عضوا في أحد محافل الكربوناري.

رتبه ووساماته

في 19 رجب سنة 1297 وجهت إليه نيابة دروس أدرنة العلمية. وفي 25 ربيع الثاني وجه إليه تدريس هذه الرتبة. وفي 22 ذي الحجة سنة 1312 وجهت إليه مولوية أزمير المجردة . وفي 28 من جمادى الثانية أعطي الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة. 
إن من ينظر في هذه الترجمة الرسمية ولم يكن عارفًا بالمترجم ولا بسيره في هذه الوظائف العلمية الأدبية، الإدارية القلمية، الحقوقية التجارية، الزراعية المالية يقول إن صاحبها من أوساط الناس لا من أفراد الرجال الذين يعدون من علماء الاجتماع وأركان العمران، ومهذبي الأمم كما وصف في فاتحة القول، ولكن من يعلم أنه في كل عمل منها آية بينة في إتقان العمل، وحكمة التصرف، يحار كيف يحسن رجل هذه الأعمل المتباينة. 
وإذا وقف بعد ذلك على بعض سيرته في العزيمة وقوة الإرادة وعلم ما كانت تسمو إليه نفسه، ويرمي إليه فكره، وقرأ بعض ما جادت به قريحته الوقادة، وفكرته النقادة، علم أنه من أفراد الزمان، وأدرك ماذا كان يرجى منه لو ساعد الزمان والمكان، وإننا نلم بشيء مما وقفنا عليه من سيرته في مدة صحبتنا له في هاتين السنتين اللتين أقامهما في مصر.

أدبه وأخلاقه

توفيت والدة الكواكبي وهو في أول سن التمييز فعهد والده بتربيته إلى خالة له من بيوتات أنطاكيا من نوابغ النساء اللواتي قلما يعرف مثلهن الشرق، لا سيما في هذا الزمان، كانت تعرف بالعقل والكياسة والدهاء والأدب البارع فنشأته على أدب اللسان والنفس فكان من أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة وحب الضعفاء.
نزيد على ما جاء في السيرة الرسمية أن الكواكبي درس قوانين الدولة درسًا دقيقًا، وكان محيطًا بها يكاد يكون حافظًا لها وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع، ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين. 
ولا أعلم أن برز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فن يفهم، وعقل بحيث إذا أراد الاشتغال به عملاً أو تأليفًا أو تعليمًا يتسنى له أن ينفع نفعًا لا ينظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم. 
ألا تراه كيف ألف كتابًا في طبائع الاستبداد لم يكتب مثله فيلسوف في الشرق ولا في الغرب فيما نعلم وكما سمعنا من كثيرين لهم اطلاع واسع في مؤلفات فلاسفة الغرب وكتابه. 
على أن الكواكبي لم يتعلم شيئًا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه فيها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية. 
أرأيت عقلاً يتصرف هذا التصرف الذي يفوق فيه الحكماء والفلاسفة في علم لم يأخذه بالتلقي وهو أصعب العلوم البشرية وأعلاها. 
كيف يكون أثره لو تربى وتعلم في مدارس منتظمة كمدارس أوروبا الجامعة وكان عنده من مواد العلم ومعرفة الأمة والحكومة بقيمة صاحبه مثلما في أوروبا.

عمله ووجهته

كانت وجهة الفقيد في كل عمل عمله أو حاوله هي المنفعة العامة فأول شيء ولاَّه وجهه هو إنشاء جريدة في بلاد لم تكن تعرف الجرائد الأهلية ولم تكن بضاعة الكتب رائجة فيها ولو كان في بلاده حرية للجرائد لكان في "الشهباء" الأثر المحمود ، ولكن البلاد التي تحكم بالاستبداد كالأرض الموبوءة لا تحيا فيها الجرائد، ولذلك لم تنجح جريدة من الجريدتين اللتين أنشأهما لأن نفسه الأبية لم تستطع إرضاء الحكام فيما يكتب . 
وهكذا كان شأنه في وظائفه فكان أول عمل عمله للبلدان أن وضع على طرق المدينة من خارجها سلاسل من الحديد تمنع الجمال التي كانت تسد الطرقات وتمنع المارين من التردد في حوائجهم وجعل لهذه الجمال التي تحمل إلى البلد ومنه مكانًا أو أمكنة مخصوصة ، وكانت مصلحة القبان قد حصرت في واحد من الأغنياء يأخذها من البلدية بالالتزام ولا يتجاسر على الزيادة عليه أحد لتقربه من الرؤساء فلما علم أن الرئيس الجديد لا يصدّه التقرب إليه عن خدمة المصلحة عرض عليه أربعين ألف قرش أو أكثر يعطيه إياها رشوة كل عام في مقابلة سكوته عنه فلم يقبل الفقيد أن يأخذ لنفسه شيئًا ولكنه قبل أن يكون المبلغ إعانة لصندوق البلدية فعلم الوالي بهذه الزيادة في الصندوق وسعى في أن يكون له سهم منها فأبى عليه الفقيد ذلك فعزله. وهكذا كانت سيرته مع الحكام في كل وظائفه أو جلها يتصدى للإصلاح فيصدونه عنه لأجل منفعة مالية أو لتقليل نفوذه فلا يتم له عمل.
وكان أول عمل عمله في إدارة مجلس البلدية هو قطع عرق الرشوة من العمال الذين يباشرون الأعمال والمصالح ويسمون الجاويشية ولكنه زاد في راتبهم لعلمه بأن الذي يضطر أكثر العمال إلى الرشوة هو قلة الراتب. وكان من ظلم الوالي بعد عزل الفقيد من رياسة البلدية أن أرجع راتب الجاويشية كما كان وألزم صاحب الترجمة بدفع ما كان زاده لهم في مدته إلى صندوق البلدية كما ألزمه بدفع ما أنفق على سلاسل الحديد التي منع بها الجمال من طرق المدرسة لأن الوالي أمر بإزالتها عقيب عزله ثم عاد فأمر بإعادتها بعد زمن قريب ولكنه لم يعد إلى الفقيد الغرامة التي ظلمه بها. 
ولما عين رئيسًا لكتاب المحكمة الشرعية كانت المحكمة في أسوإ الأحوال في الصورة والمعنى، فكان ينفق على إصلاحها من جيبه حتى إنه استحضر لها السجوف والأستار من بيته ومنع اختلاط النساء بالرجال إذ جعل لكلٍّ مكانًا ينتظر فيه دوره للتقاضي ورَتَّبَ الأوقات ونظَّم الدفاتر.
وكان صاحب عزيمة قوية لا يهاب حاكمًا ولا يخاف ظالمًا وعزيمته هي التي جنت عليه فقد كان نجح في عمله عندما عين مديرًا ومفتشًا لمصلحة حصر الدخان كما تقدم في السيرة الرسمية حتى وقع النزاع بنيه وبين عارف باشا والي حلب يومئذ فبطل العمل عمل الفقيد في ضبط هذه المصلحة ما عجزت عنه إدراتها العمومية والحكومة جميعًا حتى كانت تخسر في ولاية حلب دون سائر بلاد الدولة، وكان المشتغلون بتهريب الدخان البلدي وبيعه في حلب سبعمائة رجل فعين لهم رواتب ومنعهم من التهريب بحكمة عجيبة وسيأتي مجمل خبره في عداء الوالي عند الكلام على بعض الصعوبات التي لقيها في طريقه.
كانت مدة الاتفاق الأول مع مصلحة حصر الدخان ثلاث سنين فانفصل من إدارة العمل والتفتيش بعد سنتين بالسبب الذي ألمعنا إليه ، ولثقة الفقيد بنفسه واقتداره على العمل ذهب إلى الأستانة بعد عزل عارف باشا من ولاية حلب فعقد اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدته عشر سنين وكان أراد أن يضم إلى ولاية حلب متصرفًا فعقد اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدة عشر سنين وكان أراد أن يضم إلى ولاية حلب ومتصرفية الزور ولايتي بيروت وسورية فلم يرض له ذلك من استشاره من الأقربين فرجع عنه. وقد نجح أيضًا في المرة الثانية ولكن حدثت بعد أربع سنين الفتنة الأرمنية فنهب الأرمن الدخان من عدة بلاد وقتلوا موظفي المصلحة فكان الفقيد يخسر في الشهر بضعة عشر ألفًا من الليرات فتوسل بذلك إلى الآستانة بحل العقد وإبطال الاتفاق فتم له ذلك بعد عناء وخسارة عظيمة ولإخلاصه بحب المصلحة العامة كانت أكثر وظائفه فخرية أي بغير راتب كما عرف من الترجمة الرسمية ويزيد على هذا أنه كان يبذل شيئًا من ماله فوق ما أخذه من راتب بعض الوظائف لأجل ترقية العمل وإتقانه، وهذا خلق لم يعرفه الشرق في هذا العصر.

مشروعاته

طلب من الحكومة عدة امتيازات بأعمال عظيمة لم تكن تخطر لأهل بلاده على بال، منها إنشاء مرفأ في السويدية وطريق حديدي منها إلى حلب. ومنها جلب نهر الساجور إلى حلب لأن ماء المدينة قليل، ولو تم هذا العمل لأحييت به أرض واسعة فكانت جنات وحدائق. ومنها أن عينًا خوارة في سفح جبل بين أرمنان وأدلب قد أغرقت أمواهها تلك الأرض فجعلتها مستنقعات تضر الناس ، ولا يأوي إلى غاباتها إلا الخنزير البري فذهب الفقيد إليها واختبر حال الأرض والعين اختبارًا هندسيًّا زراعيًّا فعلم أنه يمكن جر مائها إلى أدلب القليلة الماء وتجفيف تلك المستنقعات فتصير نافعة وتحيا أرض أدلب ويحيا أهلها فطلب بذلك امتيازًا.
ومنها إنارة حلب وبيره جك ومرعش و أورفه بالكهربائية بواسطة شلال يحدثه من نهر العاصي في محل اسمه المضيق بالقرب من دركوش تابع لجسر الشغور وكان اختبر المكان اختبارًا هندسيًّا فعلم أن إحداث الشلال فيه ممكن. ومنها استخراج معدن نحاس من أرغنه التابعة لولاية حلب. وقد حال دون إعطاء بعض هذه الامتيازات ما يحول كل مصلحة عامة يطلبها الوطنيون كالرشوة ونحوها. وقد كان أعطى امتياز استخراج النحاس واشتغل به ثلاثة سنين ونيف وبعد ذلك أرادت حكومة الولاية إبطاله لأمر ما فأدخلت مع الفقيد في العمل بعض الأجانب وتوسلت بذلك إلى إبطاله.

خدمته للناس وللحكومة

كان اتخذ له مكانًا بين داره ودار الحكومة سماه المركز يأوي إليه وكلاء الدعاوي فكان يؤمه أصحاب الحاجات والقضايا يستشيرون صاحب الترجمة في حل عقد المشكلات، ويستضيئون برأيه في دياجير المهمات، وكان في الغالب يفضل بينهم بالتراضي ويغنيهم عن المحاكمة والتقاضي فإن احتيج في قضية إلى الحكومة يندب له من يراه أهلاً لها من الوكلاء المحامين، وإن كانت عظيمة الشأن أن يندب نفسه ويحاكم المبطل حتى يحق الحق لصاحبه. 

الكواكبي.. خيرُ مظلوم

ورث الكواكبي عن سلفه السادة الأمراء علو الهمة وقوة العزيمة وعدم المبالاة بالأخطار فهو من سلالة السيد إبراهيم الصفوي الأردبيلي المهاجر إلى حلب وما حديث الصفوية في الإمارة بمجهول. 
بهذا كان رحمه الله تعالى لا يهاب الحكام ولا يداريهم مع أن حكومتهم في الحقيقة استبدادية وهذا هو الذي أحبط أعماله في بلده وذهب بثروته. 
غاضب عارف باشا أحد ولاة حلب فأغرى بعض الناس بأن يكتب إلى الأستانة شاكيًا من سيئات الوالي شارحًا لهم فعلم الوالي بذلك فعمل مكيدة لحبس الفقيد وضبط أوراقه وزوَّر عليه ورقة سماها لائحة تسليم ولاية حلب إلى دولة أجنبية وطلب محاكمته عليها، وحكم القانون في هذه الجريمة الإعدام ولكنهم غلطوا في معاملته بالحبس وطلب الاستنطاق غلطًا قانونيًّا ما كان ليخفى على الفقيد فكتب إلى الأستانة كتابة مطولة يظهر فيها أن خروج حكومة الولاية عن حدود القانون هو من دلائل تحاملها عليه وتحريها ظلمه، وطلب أن يحاكم في ولاية أخرى فأجيب طلبه وحُوكم في بيروت فحكم ببراءته وما زال يتتبع الوالي حتى عزل بعد عودته إلى حلب وكان هو أول من بشره بالعزل بواسطة قاضي الولاية ثم إنه أخرجه من حلب بإهانة عظيمة؛ لأنه أوعز إلى أصناف الفقراء الذين كانوا يسمون الفقيد أباهم لنصرته إياهم فاجتمعوا عند داره بهيئات غريبة فترك أهله وخرج كالهارب وسافر إلى الأستانة وتبعه الفقيد ليحاكمه ولكنه لم يكد يصل إليها حتى مات قهرًا.
وكان الشيخ أبو الهدى أفندي الشهير من أعدائه ويقال أن السبب الأول في ذلك إباء الفقيد أن يصدق على نسب الشيخ أبي الهدى هذا، وإن الشيخ أبا الهدى صار نقيب أشراف حلب وكانت هذه النقابة من قبل في آل الكواكبي. ومن آداب الفقيد العالية أنه كان هنا يثني على صفات الشيخ أبي الهدى الحسنة كالمروءة والكرم والذكاء والثبات وقلما كان يخوض بانتقاده إلا مع الخواص الذين يعرفون الحقائق فكانت عداوتهما عداوة العقلاء.
خسر الكواكبي بتلك المحاكمة ألوفاً من الجنيهات وخسر أضعافها بإدارة شركة انحصار الدخان للمرة الثانية أيضاً ؛ لأن الحكومة مكلفة بحفظ أماكن الشركة فلما حدثت فتنة الأرمن امتنع الوالي عن إرسال العساكر لمنع نهب الأرمن مال الشركة وخسر بعدم مداراة الحكام غير ذلك من المزارع والأرض منها مزرعة جفتلك جميل باشا الوالي التي اشتراها منه الفقيد فاعتدى عليها زعماء التركمان بإغراء خفي حتى أخذوها ومنها مزرعة جفتلك كانت مستنقعات تابعة للأراضي الأميرية فألف لها شركة وأخذها من الحكومة وجففها فأغرى المغرون بعض عشائر الأكراد بالتعدي على حصته فحاكمهم فحكم لهم عليه بالمساعدة الخفية، وفي أثر ذلك سافر مهاجرًا إلى مصر.

سياسته ورأيه في الإصلاح

لم يكن الكواكبي في اشتغاله بخدمة بيته وبلده وحكومته غافلاً عن شؤون المسلمين العامة فقد كان يقرأ الجرائد التركية والمصرية حتى الممنوعة التي كانت تدخل إلى حلب كغيرها بوسائط خفية. ولما هاجر إلى مصر كان أول أثر له فيها طبع سجل جمعية أم القرى وكان يقول: إن لهذه الجمعية أصلاً، وأنه هو توسع في السجل ونقحه ست مرات آخره عند طبعه منذ سنتين ونيف أي عقيب قدومه إلى مصر. وقد قال لنا مرة: إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها. ومن يقرأ الكتاب يظن أن صاحبه صرف معظم عمره في البحث عن أحوال المسلمين وتاريخهم في عقائدهم وعلومهم وآدابهم وتقاليدهم وعاداتهم ومنه يعلم رأي الفقيد في الإصلاح وقد كنا معه على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف الكتاب عندما اطلع عليه وربما نشير إلى المسائل التي خالفنا الفقيد فيها في هامش الكتاب عند طبعه وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية.
أما آراؤه السياسية فحسبنا منها كتاب طبائع الاستبداد الذي يكاد يكون معجزة للكتاب السياسيين . وقد زعموا أن معظم ما في هذا الكتاب مقتبس من كتاب لفليسوف إيطالي في الظلم . ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية وأحوالنا وذوقهم في العلم وذوقنا يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم الاجتماع والسياسة في حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويراً ، وإذا لاحظ مع ذلك أن هذا الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في المؤيد ثم مدها صاحبها مد الأديم العكاظي وزاد فيها فكانت كتابًا حافلاً يتجلى له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى ، وإذا علم بعد هذا كله أنه نقحه بعد الطبع فحذف منه قليلاً وزاد فيه كثيراّ يعلم علم اليقين أن ينبوع علم هذا الرجل صدره وأنه كان يزداد في كل يوم فيضاناً وتفجيراً، نعم إن قال في مقدمته : إن بعضه مما درسه ، وبعضه مما اقتبسه، وإننا نعلم أنه لم يولد إنسان عالمًا ولكن فرقاً عظيماً بين من يحكي كلام كغيره كآلة الفوتغراف وبين من يُحَكِّم عقله في علوم الناس فيأخذ ما صح عنده وينبذ ما لا يصح . من كان له مثل هذا العقل الحاكم في كليات العلوم فهو الفيلسوف إن كان اجتهاده هذا في العلوم العقلية والكونية وهو الإمام إن كان اجتهاده في العلوم الدينية.

وجهته الأخيرة

وجه همته أخيرًا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح على بصيرة فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية تركها وعربها وأكرادها وأرمنها، ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل آسيا الغربية، ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي وما زال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سوريا واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربي والأدبي وعرف حالة البلاد الزراعية وعرف كثيراً من معادتها حتى إنه استحضر نموذجًا منها. وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي من موانئ الهند وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط فطافت به سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقيا الشرقية فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارًا سبق به الإفرنج ، وكان في نفسه رحلة أخرى يتم بها اختباره للمسلمين وهي الرحلة إلى بلاد الغرب ولكن حالت دونه المنية التي تحول دون كل الأماني والعزائم.

استشهاد أبا الضعفاء 

بعد أن تابعت السلطات التركية التضييق عل الكواكبي هاجر سرًا من بيروت الى مصر سنة 1899 أو على أبعد تقدير 1900، ثم خرج منها سائحا فطاف جزيرة العرب وتحول الى الهند والصومال والحبشة وغيرها. 
وبعد عودته الى مصر عام 1902، فاجأته المنية، بعد أن كان جواسيس السلطان عبد الحميد قد دسوا له السم في فنجان القهوة تحديداً في مثل هذا اليوم 14 يونيو 1902.
في الواقع إن فرضية اغتيال عبد الرحمن الكواكبي في الثامنة والأربعين من عمره لم تولد من فراغ، فهذا ما تؤكده الحقائق التاريخية عن الاغتيالات المماثلة التي وقعت ابان العهد الحميدي مثل اغتيال رزق الله حسون وغيره. 
هناك اعتبار بالغ الدلالة وهو عدم وجود أية مخطوطات للكواكبي في غرفته، الأمر الذي يدلل ولا شك على زيارة أناس غرباء لكن عملاء السلطان وجواسيسه الذين سطوا على كتاباته ومخلفاته وهذا ما حدث ايضا مع أديب اسحاق. 
ولعل شخص الكواكبي كمناضل حر قولا وعملا خير برهان على صحة هذا الافتراض، اذ كان قد ألف كتبا كثيرة لم ينشر منها في حياته سوى "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى" وهما دعوة جريئة الى الحرية والاصلاح. 
ولكن لأنهما قد نشرا في مطلع القرن العشرين ولهما علاقة مباشرة بالنهضة العربية القومية السياسية، ارتأينا تحليل الفكر الكواكبي الى كتابنا القادم.
ولكن، تبقى كلمة لابد منها وهي أن مدينة حلب بعد جرمانوس فرحات تبوأت مركزا لائقا بوصفها مسقط رأس عبد الرحمن الكواكبي أبرز رواد النهضة العربية والراية الاسلامية الأولى في حركة التنوير العربي، وبوصفها مسرحا لنشاطه فكان فيها قطبا عظيما من أقطاب الرأي ومن الأعلام البارزين في الشرقة عامة. 
بينما كانت حلب عينها غارقة في سبات من الجهل المطبق بعظمة الأعمال الجليلة التي قام بها ابنها البار وبالأفكار السامية التي أشاعها.
رثاه كبار رجال الفكر والشعر والادب في مصر ونفش على قبره بيتان لحافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا هنا مهبط إلتقى   ***   هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا وأقرأوا أم الكتب وسلموا   ***   عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

مؤلفاته

ألف العديد من الكتب منها:
طبائع الإستبداد
أم القرى
العظمة لله
صحائف قريش
                                                 *******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عاجل | إذاعة الجيش الإسرائيلي: صفارات الإنذار دوت تحذيرا من صواريخ باليستية أطلقت من لبنان على منطقة تل أبيب

عاجل | إذاعة الجيش الإسرائيلي: صفارات الإنذار دوت تحذيرا من صواريخ باليستية أطلقت من لبنان على منطقة تل أبيب 14/10/2024|آخر تحديث: 14/10/20...